للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حمام الحرم]

للأستاذ عباس محمود العقاد

أشرت في مقالي السابق عن الرحلة الحجازية إلى حمام الحرم فقلت عن أعجب ما سمعته ورأيته من شأنه (إنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادى ولا جماعات).

(وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور).

وهذه خاصة لا بد لها من سبب مفهوم، ولا بد من استقصائها في جميع أحوالها قبل التيقن منها وقبل تعليلها بالخوارق التي لا تقبل التعليل، فإن الذهن لا يقبل الخارقة إلا إذا ضاقت به علل الطبائع التي أودعها الله في خلقه وتواترت بها المشاهدة في جميع الأحوال، وبخاصة حين لا يكون هناك مقتضى من حكم الدين ولا حكم العادة لامتناع الطيران في فضاء الكعبة أو أي فضاء مقدس مصون، ولا معابة على فضاء السماء في كل مكان أن تحلق فيه الطيور أو تعبر به الطائرات.

وقد شغلني أن أتيقن أولا من تطابق الأقوال على اطراد هذه الظاهرة، وأن أجرب حماما غير حمام الحرم لأرى كيف يطير إذا أطلق في جوانب الكعبة وحده، وأن أجرب طيراً غير الحمام من القماري أو العصافير أو فصائل اليمام، لان الجوارح قد يصرفها النظر إلى فرائسها عن تحقيق التجربة بما يفيد الحرية في اختيار جو الطيران، وخطر لي قول الطائي:

يسقط الطيرُ حيث يلتقط الحب ... وتغشى منازل الكرماء

ولكن الطير يسقط حيث يلتقط الحب ولا يقصر طيرانه على مواضع التقاطه، فإذا كان حمام البيت قد تعود أن يلتقط غذاءه في المماشي التي حول الكعبة فليس ثمة ما يمنعه إذا صعد في الجو أن يتجاوز تلك المماشي إلى ما جاورها، وهو قريب من قريب.

وأوصيت بعض رفاقنا أن يرقبوا هذه الظاهرة في زياراتهم المتعددة، وهم يزورون البيت متفرقين حسب النوبة التي يفرغون فيها من العمل في اليخت أو في الطوافتين. فلما عادوا جميعاً كُفيت مؤنة التجربة أو التجارب الكثيرة التي كان لا بد لنا منها قبل التيقن من تلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>