للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الظاهرة وتعليلها بما يكشفها على جليتها، لأن ثلاثة منهم اتفقوا على أنهم شاهدوا الحمام يطير أحياناً فوق الكعبة وإن لم يكن ذلك مطرداً في جميع الأوقات، وممن شاهدوا ذلك إمام اليخت الملكي المحروسة وهو شاب مهذب أديب حسن المعرفة بالدين حسن التفسير لأحكامه وفروضه، فأنه قال إن الحمام يطير فوق الكعبة ولكنهم يلحظون فيما يطير منه عليها شيئاً من الضعف والانكسار، كأنه مريض يلتمس الشفاء ببركة العبور على ذلك المقام، وهذا وحده يبطل ما ذهبوا إليه من تلك الملاحظة. . . لان طالب البركة لا يلتمسها بما يخالف حرمة المكان فيما جرى عليه عرفه أو عرف بداهته الفطرية، فإن كان طير البيت يتجنب الطيران فوق الكعبة تقديساً لها كما يتخيلون فليس من شأنه أن يلتمس البركة بما يخالف التقديس.

وقد أصبحت الظاهرة معقولة بعد ما سمعته من تلك المشاهدات بغير خارقة أو التجاء إلى أغراب.

حتى ندرة الطيران فوق الكعبة لا تستعصي على التفسير الموافق للعادات والمشاهدات، فإن الحمام الأليف يجتمع إلى أسرابه في ملاقط الحب، ولكنه لا يطير أسراباً أسراباً كالفصائل البرية من نوعه حين تهاجر من مكان إلى مكان. فإذا جاوز الحمام الأليف مساقط أسرابه فإنما يطير زوجين زوجين أو فرداً فرداً في التماس أليفه الذي يغيب عن نظره وسط الأسراب، وهذه العادة خليقة بأن تفسر لنا ندرة الطيران على بعد من المماشي التي يتجمع فيها الحمام كما تفسر لنا بطئ حركة الطائر الذي يخرج على الطريق في بحثه واستطلاعه، لأنه لا ينوي الطيران إلى بعيد حيث يعبر فضاء الكعبة لينظر حواليها إلى أليفه المفقود.

على أن جمال المعنى الذي يتمثل في حمام الحرم لا ينقص ذرة بطيرانه هنا أو طيرانه هناك، لان معناه الجميل هو الأمن في حماية الإيمان لا في حماية الحراس أو حماية الأبراج والسدود. فهذا أضعف الطير يراه الجائع والطامع ولا يمسه بسوء، وهو يطمئن إلى هذا الأمن بطبعه وإن لم يفهمه بعقل فيه يفهم أمثال هذه الأمور، فلا يجفل من الإنسان ولا تراه يطير منه إلا طيران الدلال واللعب لا طيران الفزع والاضطراب.

ولم يزل للحمام نصيب من القداسة أو الطهارة منذ آمن الناس بالدين على سنة الوثنية أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>