جرت العادة في الإنسان على أنه حيوان ناطق، وهذا النطق الذي أمتاز به الإنسان عن الحيوان معناه التفكير والتعبير معاً. والتفكير عملية تجري في عالم الداخل تترجم نتائجها ونزعتها لعالم الخارج، بإشارات إرادية مسموعة أو مقروءة هي اللغة.
اللغة لا تتحقق من دون فكر. وقد يكون فكر من غير لغة، لأن الفكر أما نفساني أو لساني، والأول منهما أقرب إلى الوجود من الآخر. لأن الوجود هو موضوع الفكر ومجال نشاطه. والفكر بدوره يصبح موضوع اللغة ودعامتها الأولى. ثم هو موجود ما دام الوجود، وحيث لا وجود فلا فكر، وليس يصح في الأذهان أن شخصاً يفكر في لا شيء، أو أنه لا يفكر في شيء. والتفكير أدل على الوجود من التعبير: فإن كل المفكرين أحياء، وليس كل الأحياء مفكرين، ولذا قال ديكارت قالته المشهورة (أنا أفكر، فأنا موجود).
ونحن بذلك نخالف (لويس دي بونالد) في قوله بأن لا فكر بدون لغة، ذلك بأن الفكر هو عالم المعاني النفسانية، واللغة عالم الألفاظ اللسانية. واللغة كمال الفكر. ولا عكس، لأنها تستوعبه، وهو لا بد له منها، وهي لا بد لها منه، ولما كانت صورة التمثال دليلاً على مادته، والثوب دليلاً على لابسه، فهل اللفظ دليل على معناه؟ وعلى أي وجه تكون دلالة اللفظ على المعنى؟ وبعبارة أخرى ما النسبة بين اللغة والفكر؟
البارعون قليل، وكم يتمنى الناس على كثرتهم أن يكونوا أمثال هؤلاء البارعين على قلتهم، وهذا ما نراه في ازدحام الناس على سماع فنان يغني، ونحن جميعاً نأكل اللحم أصنافاً وألواناً، ولكن يندر منا من يعرف كيف يتخير اللحم عند القصاب. وكلنا نفكر ولكن أقلنا من يفكر تفكيراً صحيحاً سليماً.
فإذا كان الغناء براعة، ومعرفة أصناف اللحوم براعة، فلا عجب أن يكون الفكر نشاطاً إنسانياً بارعاً، وإن كان عند ديكارت أعدل الأشياء توزعاً بين الناس. والتفكير أضيق نطاقاً من التعبير، فهو كالقوة الكهربائية لها طاقة تدير الآلات وتدبر أمور الحياة.
ويكون التفكير صحيحاً إذا روعي فيه شرائط أربع:
أولاً: استيضاح موضوع التفكير بالإلمام بشتى خصائصه.