ثانياً: امتحان الوسائل الممكنة لإتيانه قولاً أو عملاً أو معرفة أو اعتقاداً.
ثالثاً: اختيار أقرب المسالك وأقوم السبل.
رابعاً: الربط بين هذه الشرائط جميعاً.
والواقع أن تلك هي خطوات التفكير العام عند المهندس والكيميائي والفيلسوف جميعاً حينما يزاول أحدهم فنه، بل هو منهج السلوك الإنساني في هذه الحياة. ونحن إذ نفكر نزداد قدرة على التفكير يتسع معها مجاله، وبراعة التفكير تستلزم التعمق والتوسع معاً، كما هو الشأن في تخصص العلماء في أدق الأمور.
التفكير إذن تفاعل بين القوة المفكرة ومظاهر الوجود، واللغة نتيجة هذا التفاعل، ولما كان الناطق هو المفكر المعبر معاً، فإن للغة إذن مكانتها من الإنسانية. إذ الإنسان مفطور على الاجتماع ببني جنسه اجتماعاً إنسانياً أي بكلا شطري إنسانيته. أما الشطر الأول - وهو التفكير - فلا يكفي وحده لتحقيق هذا الترابط، وكذلك الشطر الثاني - وهو التعبير - لا يكفي وحده لتحقيق ذلك. فكان من اللازم أن تتحالف اللغة والفكر ما دامت الإنسانية وما دام الوجود.
ولما كانت اللغة تستوعب الفكر، فقد أصبحت العنصر الأول والدائم في التقدموالعمران. فالناس يترابطون باللغة ويتعاملون بها، وكلما يسرت اللغة بين الناس، خطوا نحو الحضارة بأوسع الخطوات، وما طرق المواصلات على اختلافها إلا لغات بين الأفراد والقبائل والشعوب. والإنسان بطموحه المعهود لا يكتفي بما لديه من مواصلات، ولا يقف نشاطه على عوالم يعرفها ويتعامل معها، لذلك عمل على التعرف بأبناء الكواكب، والتحدث إليهم في شجون وفنون، وأعانه على ذلك تطور المواصلات من التعقيد إلى التبسيط، ومن البطيء إلى السريع: من رجليه إلى أحدث ما عرف وسيعرف من وسائل؛ تدرجت من الدواب إلى العجلات، من السيارة إلى الطيارة، إلى الصاروخ الأوتوماتكي، ومن التليفون إلى التلغراف، ومن الطرق البرية والبحرية والجوية إلى اللاسلكية، ومن التلفزيون إلى التلبرنتر، وما تزال الليالي حبالى يلدن كل عجيبة، وذلك اتجاه لا ننكره على العقل الإنساني الذي لا يطيق الفوضى، ولا يحتمل الكثرة، ولا يرضى بحمل الأثقال: فقديما لم يعرف الإنسان العدد، وقديماً أخرج (بأقل) لسانه ليكمل بأصابعه العشر ثمن جَدي اشتراه،