وما زال العقل يختزل حتى عرف خصائص العدد فأغنته عن المعدود، وترقى في الأرقام الحسابية إلى الرموز الجبرية، ومن الأشكال الهندسية إلى التحليل الهندسي، فاستحالت النظريات الهندسية من ألفاظ تنطق وأشكال ترسم إلى معادلات.
واللغة مكتوبة أو منطوقة هي إشارات لا تمت إلى ما تشير إليه بصلة من قريب أو بعيد، فليس ثمة شبه ولو قليلاً بين كلمة (كلب) أو صوتها أو شكل كتابتها، وبين الحيوان المشار إليه بها لا شكلاً ولا لوناً ولا طعماً ولا أي شيء آخر. بل يروي أن سبب تسمية حيوان (الكنجارو) وهو أن الإنجليز عند استعمارهم استراليا، سألوا أحد السكان عن أسم هذا الحيوان فقال (كنجارو) أي (لا أدري) فظن الإنجليز أن هذا الحيوان اسمه (لا أدري) فصار اسماً ملازماً. والواقع أن الإنجليزي والأسترالي وغيرهما يعرفون الحيوان ويدركون صورته، ولكنهم - وإن اتفقوا على تسميته باسم (الكنجارو) - لا يردون من سبب لتسميته.
والحق أننا نجاري السابقين فيما تواضعوا عليه من أسماء، وأن اللاحقين يجاروننا فيما توارثناه عن السابقين من غير معارضة ولا مناقشة، ومن غير معارضة ولا مناقشة، ومن غير ما سبب أو ضرورة.
ومما هو جدير بالذكر أننا بالاتفاق والاصطلاح نجمع على المشار إليه أولاً ثم على ما نشير به إليه، وبذلك يكون العقد اللغوي صحيحاً. فالشيء واحد واسمه واحد. ولكن هل أفكارنا عن المسمى واحدة؟
الواقع أنها ليست واحدة، ولن تكون كذلك: لأن مشاعرنا وميولنا - فضلاً عن مدة تعارفنا - كلها تحدد أفكارنا تقديراً وتقريراً. فمدلول اللفظ واحد عند كل الناس، ومعناه يختلف في الكيف والكم عند كل واحد منهم على حدة. وعلى ذلك يكون لدينا: أسم ومسمى وفكرة. وغالبا ما يتحد الاسم، وغالبا ما يتحد المسمى، ولكن من المحال أن تتفق الفكرة لأنها أشبه بدوائر الماء ألقي فيه بحجر، فهي تتسع وتتسع إلى ما لا نهاية له من الأمواج.
والفرق واضح بن الاسم والفكرة لأن الاسم هو الدلالة على المعنى الاصطلاحي الذي يفهم من اللفظ عند إطلاقه، والذي من أجله أطلق الاسم على مسماه دون غيره، أما الفكرة فهي مفهوم الشيء من غير قيد ولا شرط. ولا بأس من التعرض للخلاف الفلسفي الدقيق الذي دار بين (جون استيوارت) و (جيفونر)، فالأول يعتبر المعنى اصطلاحاً وصالحاً للتعامل