طلع إلى الحياة طفلاً ضئيلاً يعاني الضوى من سغب، ويشكو الهزال من شظف، ويقاسي الهم من ضياع؛ يقيم على الطوى، ويغض بالضنى، ويشرق بالضيق، وتعلم من أبيه - أول ما تعلم أن المال هو الغاية العظمى، وأنه هو الهدف الأسمى. ورأى أباه وهو رجل ريفي فظ الطبع غليظ القلب شحيح النفس، ينهره في جفوة أن طوعت له نفسه أن يسأله قرشاً، ويرده في غيظ أن طلب إليه حاجة. ثم شعر بابيه وهو يقذفه إلى المدرسة هناك في المدينة ثم ينطوي عنه كأنما نسي أن له في المدينة ابنا ينظر حواليه في حيرة وقلق فيرى أبناء الناس يعيشون في دنيا غير دنياه، ويرفلون في طفولة غير طفولته، وينعمون بعيش غير عيشه، فأنضم على شجن انهمر في قلبه الغض وهو ما يزال لدى الأفق الشرقي من الحياة، انضم إلى شجن عارم فوّار لأنه لا يجد القرش؛ وهو نعيم الحياة ولين العيش ونور العين وبهجة القلب وسرور النفس. وأحس في حاجته إلى المال خشية أورثته الاستخذاء، وضعه علمته الذل، وصغاراً وسمه بالهوان، فأخذ حب المال يتدفق في قلبه جارفاً يصرفه عن إنسانيته ورجولته وكرامته جميعاً؛ والسنون تنطوي، حتى تخرج من مدرسة التجارة المتوسطة، وعين موظفاً ببنك مصر.
وظن رفاقه أن راتبه كفيل بأن يهيئ له حياة كريمة طيبة تخلع عنه ثياب رثه زريه، وتنفض عنه عفر الحاجة وغبار المسكنة وتنسق ما تشعث من حاجاته ومن خواطره، ولكن الأيام راحت تنطوي في غير ريث ولا مهل، وهو في زيه القديم البالي لم يبد علية اثر النعمة ولا سمات الخفض لأنه لا يهدف إلى غاية سوى أن يجمع المال ويكدسه فيحرص عليه فلا ينفقه ولا يبذره. وتقزز زملاءه في البنك من هذا المظهر الوضيع ومن اللباس القذر ومن الوجه الأغبر ومن الشعر المشعث، وأنفوا أن يندس في زمرتهم فتى تشغله الكزازة عن الكرامة ويصرفه الشح عن الترفع فأجمعوا أمرهم على أن ينشروا الخبر على عيني المدير؛ وثار المدير لما سمع فما تلبث أن جذبه من البنك ليقذف به في مخزن الحبوب ليتوارى هناك خلف سحابه كثيفة من الغبار الثائر، وليتيه في ضجة العمل