للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين الأدب والتاريخ]

مدن الحضارات في القديم والحديث

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

لكل حضارة قديمة أو حديثة مدنية كبيرة يستقر فيها السلطان، وتتمثل فيها الإدارة والسياسة، والصدارة والرياسة؛ وتتجه إليها الأنظار، ترى فيها المثل، وتجد فيها القدوة، وتأخذ عنها الأساليب. ولقد كتبتُ في إحدى المجلات الأسبوعية بحثاً عن بعض هذه المدن القديمة، واليوم أنقل المجال إلى (الرسالة) الغراء، جاعلاً حديث اليوم عن بيزنطة عاصمة المسيحية الأولى؛ ودمشق وبغداد العاصمتين الكبيرتين للإسلام

ولقد سميت بيزنطة بعد إنشائها بزمن بالقسطنطينية وخفقت عليها في عصور متعاقبة: أعلام الوثنية وألوية المسيحية وراية الإسلام. وبقية إلى اليوم تحت الراية الأخيرة منذ أن فتحها السلطان محمد الفاتح في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.

أسس هذه المدينة المستعمرون الأولون من الإغريق في سنة ٦٦٧ قبل الميلاد، وقد ظلت قرابة ستة قرون ونصف قرن وهي حاضرة كبرى للوثنية. وفي عصر قسطنطين الأول إمبراطور الرومان، انتقلت عاصمة الإمبراطوريات إلى بيزنطة، التي أسميت من ذلك الحين بالقسطنطينية نسبة إليه. وكان ذلك في الثلث الأول من القرن الرابع الميلادي.

ولقد أخذ نجمها منذ ذلك اليوم يصعد ويزداد ألقاً في سماء التاريخ. فأقام فيها قسطنطين كثيراً من المنشآت العامة والمباني الضخمة، وشيد (تيودور) حولها سوراً منيعاً جعلها عزيزة المنال بعيدة المطلب؛ وأصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وزخرت بالعلماء والحكماء والفلاسفة، وامتلأت بالمدارس ودور الكتب، واتسعت رقعتها من يوم إلى يوم بضاحية تمدّ، أو دسكرة تبنى، أو طريق يعبّد.

وظلت القسطنطينية بعد ذلك قرابة عشرة قرون، توالت عليها خلالها سعود الأيام ونحوسها، وتتابعت عليها الحظوظ شقيها وسعيدها، وهي في ذلك ما بين خفض ورفع وجزر ومد، إلى أن سقطت في أيدي الأتراك سنة ١٤٥٣م، وأصبحت بانتقال الخلافة الإسلامية من مصر إليها عاصمة الممالك الإسلامية وقبلة الأمم المحمدية تتجه إليها في الشدة والرخاء. وكان للباب العالي في تلك الأزمان مقام لا يدانيه مقام، وسلطان ما بعده

<<  <  ج:
ص:  >  >>