أصبحنا فإذا النيل الجليل يقبل نفّاحاً بالخير فيّاحاً بالنعيم، تتريّع شطئانه الخضر بالعسجد الذائب، وتتدفق مجاريه الفيح بالكوثر العذب، وتتنفس أمواجه الصهب بالتحيات والبركات على بنيه الخلّص الذين خلقوا من طينه الحر ومائه الطهور، وعاشوا على نائله الجم وخصبه الموفور؛ وكأنما تنفرج كل موجة على سؤال من هذه الأسئلة التي اعتاد أن يلقيها كل عام على أهله:
ماذا صنعتم يا بنيّ بالذهب الذي نثرته على أرضكم في العام الذاهب؟ هل قسمتموه بينكم على شريعة الله، وأنفقتموه فيكم على منفعة الوطن؟ أم هل بقيتم على طباع الوحوش الأوابد، تتفارسون بالغيلة أو بالحيلة حتى لا تدع المخالب والمجاريف، شيئاً للفقير أو الضعيف؟ ألا تزال الأمة مقسومة إلى باشوات و (دلاديل)، والسياسة قائمة على بهلوانات وتماثيل؟
ألا يزال أربعة الأخماس من أبنائي، يعيشون مجهودين على فضلات الخمس من أغنيائي، وخيري الفياض لم يدع في مصر كلباً جوعان ولا ضفدعاً عطشى؟
أي شيء صار مائي السماوي الفرات في دمائكم يا ساكني الوادي؟ أموتاً وقد أحييت الصحاري؟ أم ذلاً وقد أعززت الفراعين؟ أم جهلاً وقد خلقت الحضارة؟ إلى متى يا بني تقابلون برّي بالعقوق ووفائي بالغدر، وتقبلون من أوليائكم أن يدعوا مائي وثرائي يذهبان في عباب البحر كما تذهب النفحة الرخية في ثورة العاصفة وثراي مكروب وشعبي جائع؟
ولكن أسئلته الأبوية السنوية تذهب في الهواء كما يذهب فيضه في البحر، فلا أذن تعي، ولا لسان يجيب!!
أخذنا مجلسنا المعتاد من القهوة، وكان النادون المعتادون قد راعهم ما رأوا من جمال النيل وجلال الفيضان فسكنت ثرثرتهم بعض السكون، واتجهوا بمشاعرهم إلى النيل الطامي يقابلونه بالهشاشة ويبادلونه التحية. وملكتنا نحن أيضاً روعة المنظر، فذهلنا ذهول الشاعر المستغرق؛ وتراءت على مرهفي الحس منا سمات من جلوة الخاطر وطلاقة النفس؛ وكاد