الذهول ينقلب نشوة والحديث يتحول شعراً، لولا الذباب الذي يقع في الكأس فيكدر الصفو، أو المتسول الذي يسقط في الحديث فيقطع الأنس! والمتسولون في المنصورة كالذباب في رأس البر، لا يدعون للجالس مشغلة إلا بالاستعاذة والطرد. وكان الذي صرفنا عن المنظر الساحر والحديث العذب نوع من هؤلاء المتسولين طريف: رجل كفيف البصر، وثيق التركيب، مربوع القامة؛ على جسمه جلباب محكم التفصيل، وعلى رأسه عمامة حسنة التكوير، وفي يده هراوة صلبة العود؛ كان يقود نفسه على طوار الشارع وهو يقول بصوت جهير رزين ولهجة متزنة آمرة:(طالب من الله: أفطر، وأشرب القهوة، ونصف ريال، وواحد يلمه لي)!
لم يكد هذا الرجل يبدئ ويعيد، ويذهب ويجيء، حتى نهض إليه الجالسون بالقرش بعد القرش حتى أعلنهم أنه استوفي حقه. ثم أنصرف عنهم إلى غيرهم دون أن يجود عليهم بما تعود المتسولون أن يسرفوا فيه من مبتذل الدعاء والشكر!
قلت لصاحبي وقد بدا عليه ما بدا عليّ من العجب العاجب: هذا المتسول واحد من هؤلاء الأوزاع المتبطلين الذين يلحون على الناس بالضراعة والوضاعة، ويلح الناس عليهم بالنهر والقهر، فما السر الذي حمل القوم على أن يفردوه بهذه المعاملة؟
السر في رأيي هو القوة التي برزت في هيئته ولهجته.
والإنسان منذ كان يعجب بالقوة ويخضع للقوى بدافع من فطرته، لأن القوة دليل الحياة لصحيحة ووسيلة العيش العزيز، وهي معبودة منذ كانت في تهاويل الفلك وأفاعيل الطبيعة وتعاجيب الناس. ولولا سلطانها الفطري على القلوب لما عبد صنم ولا قدّس طاغية
ربما يتفق لك أن تجادل بعض الناس بالحسنى وتحاجّه بالمنطق، فيركب هواه ويصر على غيه؛ فإذ فاجأته بالصيحة الغضبة استكان وسلّم. وإنك لتجد كثيراً من خلق الله يصفقون لهجمات هتلر، ويصفرون لخطب رزفلت! وأولئك هم العامة وأشباههم ممن غلبت على نفوسهم عبودية القوة فآمنوا بالحيوان وكفروا بالإنسان، وانقادوا للعاطفة وغفلوا عن المنفعة!!
الديمقراطية كما تعلم وليدة المدنية العليا. وما كان المدني سليم النفس والفكر والإرادة أن يعود إلى عيش القطيع فيلقي مقادته إلى رجل مثله يجوز عليه ما يجوز على البهيم من