للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أعلام الأدب]

يوريبيدز

لغته. فنه. وطنياته

للأستاذ دريني خشبة

أعظم الآثار الفنية في عالم الآداب هي تلك التي لم يستطع أحد إلى اليوم نقلها من لغته إلى لغة. . . فالقرآن مثلاً لا تعرف قيمته الفنية إلا في اللسان الذي نزل به، وقد فشل الكثيرون في ترجمته ترجمة فنية سائغة تحتفظ ولو بالقليل جدا مما اختص به أسلوبه القوى البارع المسبوك المتين من بلاغة واتزان وموسيقى وشدة أسر. . . وكذلك الإلياذة والأوديسة والأنييد وفردوس ملتون. . . إنه لا توجد لهذه الآيات الأدبية الفنية البارعة ترجمات تعادلها فيما امتازت به من خصائص لُغَاها التي ألفت بها، فما تستطيع الترجمة إلا أن تشوه جمل الأصل وتمسخه مسخاً. . . ومثل هذا يقال في درامات يوريبيدز، فإنه لم يستطع أحد ممن نقلوها إلى لغاتهم أن يحافظ على روح الشاعر العظيم وقوة بيانه. وهذا شللي أحد عباقرة الشعراء الإنكليز وأحد المعجبين بيوريبيدز والمتمكنين في اللغة اليونانية القديمة. . . لقد أحصى له النقاد أخطاء كثيرة في ترجمته درامة السيكلوبس. . . ثم عدوا له ضروباً من الشطط ابتعد بها عن الشاعر العظيم. . . ولقد كان شللي معذوراً من غير شك، فلقد بلغ يوريبيدز الذروة بالبيان الأتيكي واللغة الاتيكية. وقد كان مثل أبي الطيب في الشعر العربي، ارتفع ثم ارتفع، فلما مات لم يخلق الله له ندا يحلم بمرتبته في الشعر والحكمة. هذا ولقد أوتي يوريبيدز أضعاف ما أوتيه أبو الطيب من قوة الأسلوب وعمق التفكير، لا في بيت، أو مقطوعة، أو قصيدة، أو مرثية أو مدحة؛ وإنما في درامة طويلة فيها حوار وفيها خطاب وفيها غناء وفيها بكاء وفيها تدبير وفيها تصور لحادثة متشعبة، هي كالكائن الحي، يملأ المسرح، ويملأ الآذان، ويملأ الأبصار، ويملأ القلوب.

أنهت الدرامة بعد يوريبيدز في تاريخ الأدب اليوناني. . . هكذا يقول المؤرخون. . . وهم يقصدون الدرامة العالية ذات الفن الرفيع. . . وقد عاش يوريبيدز يؤلف للمسرح قرابة خمسين سنة، ومع ذلك فقد عاش غريباً في قومه، بغيضاً إلى غالبيتهم المغيظة المحنقة

<<  <  ج:
ص:  >  >>