للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لشدة ما ثار بتقاليدها وسخر من أفهامها. . . فلما مات. . . أخذ يعيش بأدبه العالي من جديد، وأخذ يخلب القلوب ويسحر الألباب بدراماته التي نيفت على التسعين، والتي ظلت تمثل بعد موته ستمائة سنة أو يزيد، والتي ظلت شغل النحويين واللغويين من علماء الأمم المختلفة في اليونان وفي رومة وفي بيزنطة إلى ما قبل ألف سنة من الزمان. . . فما نجد لغويا من مؤلفي المعاجم إلا وهو يستشهد به في أكثر ما يستشهد على صحة كلمة أو سلامة تعبير على نحو ما يستشهد مؤلفو القواميس عندنا بأشعار الجاهلية والقرآن الكريم.

ومع هذه المرتبة الرفيعة في اللغة فلم يستحدث يوريبيدز شيئاً ذا بال من وجهة الفن المسرحي، بل هو قد أخذ ما استحدثه سوفوكليس دون أن يغير منه شيئاً. ويبدو أن اشتغاله بالفكرة العميقة واستعراض الآراء السيكلوجية التي استحدثها في أكثر دراماته، والتي لم يعرضها تاريخ المسرح قبله، ثم استعراض الآراء الفلسفية التي طبعها فيه أساتذته، وأصدقاؤه السفسطائيون، ثم عنايته الشديدة بالصوغ الشعري، وتجويد أغاني الخورس، كل ذلك حال بينه وبين التجديد المسرحي الفني، أو ما يعنون به (تكتيك) المسرح من وجهة الشكل لا من وجهة الموضوع.

على أن ليوريبيدز مع ذلك خصائص ميزته من أقرانه، ومن أهمها تلك المقدمات الطويلة الطلية الاستهلالية التي يهيئ بها الأذهان لمشكلته الدرامة والتي يقصها بلسان شبح كما في (هيكوبا) أو بلسان إله كما في (هيبوليتس) أو بلسان أحد أشخاص الدراما كما في (هيلينا). . . الخ. . .

وليس يعترض على ذلك بأنه لم يتبع تلك السبل (إفجنيا أوليس) لأنه لم يكمل هذه الدرامة كما أسلفنا بل أكملها غيره، وربما بدله غيره أيضا.

ومن ذلك أنه كان يحل عقدته الدرامية في اللحظة الأخيرة بظهور شبح أو إله أو سرد نبوءة، فيظهر ما كان مطوياً عن الأفهام، وهو ما يسميه نقاد الآداب الكلاسيكية - أو (إله من الآلة) أو تسخير إله لغرض درامي كما تسخر الآلة.

وكان ارسطو يكره ذلك في درامات يوريبيدز، وإن كان سقراط من قبله لا يرى في ذلك ما يعاب به الشاعر - والحقيقة التي اتفق عليها نقاده، وفي مقدمتهم الدكتور فيرال إن هذا أشق عيوب يوريبيدز بالإضافة إلى طول جواره الذي يجعله إلى الخطب الرنانة اقرب منه

<<  <  ج:
ص:  >  >>