للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القصَص

قصة مصرية

الأعمى. . .

بقلم محمود البدوي

تمر ترعة الكامل بقرية (س) وهي قرية صغيرة من قرى الصعيد، فتشطرها شطرين غير متساويين، فقد جارت على الجانب الأيسر بقدر ما أضفت على الأيمن، فاتسع هذا واستفاض حتى أصبحت منازله وبساتينه ونخيله وأعنابه لا يحدها البصر ولا تحصرها العين، واستدق ذاك واستطال حتى قامت منازله الصغيرة على شط الترعة ذليلة منكسرة واجمة، تشكو إلى الله ظلم الطبيعة بعد أن شكت جور الإنسان الذي خلفها سوداء قذرة تمرح فيها الحشرات من كل لون وجنس.

وإذا استقبلت القرية وأنت قادم على جسرها الطويل، بصرت أول ما تبصر بمنزل صغير من هذه المنازل بنى بالطوب الأسود، وخط جواره بستان، ليس فيه سوى نخلتين! مالت إحداهما على الترعة، حتى غرقت فروعها في الماء، وسمقت الأخرى في الجو، حتى ناطحت بسعفها السماء، ولا تدر النخلتان ثمراً الآن، ولا يرجى منهما شيء في المستقبل، فقد جف عودهما وذهب شبابهما. وتقيم في هذا المنزل منذ أكثر من تسعة أعوام أرملة في الخمسين، وهي امرأة دمثة الطبع - على خلاف العجائز من مثيلاتها - ناحلة الجسم معروقة العظم واهية البناء، تستريح في بيتها معظم العام، حتى يهل رمضان، فإذا هل، خرجت في الهزيع الأول من كل ليلة حاملة على ذراعها صفيحة قديمة تطوف بها على منازل القرويين، وهي تنقر نقراً خفيفاً، وتغنى بأغنية قديمة، قل من يدرك معناها ومبناها من سكان القرية! على أنهم كانوا يهبون من مضاجعهم عندما يصافح سمعهم إيقاعها وغناؤها ويبسطون موائد السحور، وان كان الليل لم ينتصف بعد!! وهذا العمل الضئيل لا يجلب لها في الغالب رزق شهرين أو ثلاثة، فكيف تقتات باقي العام؟ وكيف تعيش؟ هذا هو السؤال! على أن الذين انحدروا من الريف، يعرفون تمام المعرفة أن هناك الملايين من أمثالها يضعون دائماً أيديهم على بطونهم ليحفظوا بذلك التوازن الاجتماعي لتخمة الأغنياء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>