مثل هذه الأيم السواد الأعظم من الفلاحين الذين لا يعرفون وخير لهم أن لا يعرفوا، أنهم أتعس المخلوقات البشرية في الدنيا جمعاء. إنهم مخلوقات ذليلة تاعسة، لصقوا بالأرض حتى أكلتهم الأرض، وأفنوا عصارة حياتهم فيها حتى استنفذت قوتهم واستفرغت جهدهم. ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم، لعلمت أنهم أتعس الناس في الناس، وأشق الطبقات العاملة على الإطلاق. إنهم مخلوقات مريضة فقدت بهجة الحياة ونعيمها واستسلمت صاغرة للمرض والفناء.
ويسكن مع هذا الأيم أعمى في الثلاثين من عمره، وهو شاب أسمر فارع ضليع الجسم مفتول العضل وثيق التركيب، وهو المؤذن لمسجد القرية منذ أن شب عن الطوق وانخرط في عداد الرجال. على أن الذي جمع بين هذه الأيم العجوز وهذا الأعمى الشاب، لم يكن قرابة ولا نسبا، وأن كان القرويون يسمون العجوز (أم سيد) وسيد هو الأعمى؛ وكانت المرأة تمتعض وتهتاج لهذه التسمية في أول الأمر، وهي التي لا (سيد) لها، ثم ما لبثت أن استراحت لها على مرور الزمن فقر هائجها وسكن، حتى تعمدت ألا تدفع هذا القول بما يكذبه، وهي المتيقنة بأن الجدل في أمثال هذه الأمور غير مجد في الواقع.
فمن الذي يقف في وجه التيار الجارف؟ ومن الذي يمكنه ن يمنع ألسنة الناس الطويلة جداً إلى حلوقها؟ لا أحد على التحقيق.
على أن المنزل لم يكن للعجوز والشاب في الحقيقة، وإنما هو لرجل ملاح يعمل في النيل ويقضي فيه العام كله. ولا يهبط القرية إلا زمن التحاريق، فإذا جاء، بات في سفينته، فقد ألف الرجل النيل، ونسى منزله على توالي السنين.
وكان المسجد الذي يؤذن فيه الأعمى في طرف القرية الشمالي، ولكي يبلغه لا بد له أن يجتاز الترعة وعليها جسر ضيق، يجوزه المبصر وهو راجف حذر، فكيف بالأعمى، ثم يدور بعد ذلك في دروب وينعطف في منعطفات، ويجتز بساتين من النخيل يكثر فيها الحسك والشوك، وعلى الرغم من هذا كله، فان الرجل كان يبلغ المسجد وكأنه المبصر الحديد البصر، فلا يضل ولا يتباطأ في سيره؛ ولا يعتمد على الحائط، ولا يستند إلى الجدار، وشد ما تعجب لذلك وتدهش! على أنك متى ما سمعت القرويين وهم يقولون إن