للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صور من الحياة:]

جنة الشيطان!

للأستاذ كامل محمود حبيب

(يا لحوم البحر. . . سلخك من ثيابك جزار!)

مصطفى صادق الرافعي

لشد ما شاقني أن أقضي ساعة من العمر إلى جوارك - أيها البحر - ساعة أفزع فيها من وقدة الغيظ إلى ربيعك الغض الرطيب، أسعد بالراحة من عناء العمل، وأسكن إلى الهدوء من صخب الحياة، وأتحلل من دواعي العيش، وأنفض وعثاء الطريق! فأنا - دائماً - أجد فيك هدوء البال، وراحة النفس، وصحة البدن. . . إنني ما زلت أذكر يوم اللقاء الأول - أيها البحر - يوم أن كنت فتى غضَّ الإهاب، ويّق العود، بسَّام الخواطر، لا تشغلني نوازع الحياة، ولا ترمضني صفعات الرزق، لا أرى الدنيا سوى متعة الروح ولذة القلب وفرحة النفس. . . ورأيتك - لأول مرة - فراعني موجك الثائر وهو يتلاطم في قسوة ويتهارش في عنف، وأزعجني هديرك الصاخب وهو يصّاعد في عنفوان لا يهمد، وأخذتني روعة المنظر الهائل حين كلَّ البصر عن أن يحيط بنواحيك، وحين عجز الخاطر عن أن يلم بأطرافك، وسحرتني الشمس وهي تكاد تتوارى خلف الأفق، فتندفع تبكي أفولها بعبرات من دم أحمر قان يتألق على صفحة اللجة التي توشك أن تتردَّى فيها. . . فوقفت أتأمل في صمت، وقد غلبتني الحيرة، وسيطر عليَّ الذهول. . . فما استطاعت الكلمات أن تتحدث عن بعض خلجات فؤادي، لأن عالمك أدهشني يوم اللقاء الأول، أيها البحر. . . وكنت حينذاك شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه في غير غناء وأبلغه في غير عنت. وللشباب أساليب شيطانية ماكرة تؤرثها عزيمة جياشة لا يعبث بها وهن ولا يقعدها ضعف، فانسربت في مسالك الطيش أنعم بأفانين اللذة وأرشف رضاب السعادة، هنا. . . هنا على شاطئك الجميل الجذاب، أيها البحر.

والآن - وقد انطوت سنوات وسنوات منذ يوم اللقاء الأول - وما زلت أحس بالذكرى الرفافة تتقد في خاطري، لأنني كنت شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>