للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واليوم جئت إليك بقلب الرجل وعقل الفيلسوف، فماذا رأيت فيك، أيها البحر؟

وجلست بازائك أياماً استشف حكمك من خلال الموج وأقرأ خواطرك من ثنايا الزبد وأتسمع كلماتك من بين الصخب، وإن قلبي ليفتقد جمالك الأول لأنه شاب فلم يعد يحس سحرك القديم.

وأخذ القوم يغدون إليك أرجالا خلف أرجال وزمراً من وراء زمر، فغطى لغطهم على همساتك وتلاشت نبرات صوتك الرقيقة خلال الضجة العنيفة على الشاطئ. فغاظك أن تعجز - وأنت عظيم - عن أن تسكت هذا اللجب، ففار موَّارك واضطربن أمواجك، ووقف الجمع حيالك ينظرون في عجب ومن أمامهم (الراية السوداء) تنذرهم بالخطر العظيم. ثم استخفك الطرب حين رأيتك تظفر بهذا الجمع فتنفث في نفوسهم الفزع والرهبة، فغبرت أياماً تقهقه بضحكات ساخرة مخيفة، وطالت ثورتك فرحت أحدث نفسي: (غداً، حين ينفرط عقد الصيف، يعود إليك - أيها البحر - الهدوء وتشملك السكينة لأنك تكون - إذ ذاك - قد نفضت عن نفسك همَّ هذا المشهد.

وسمعتك - أيها البحر - تحدثني من خلال ثورتك قائلاً:

(هذا الشاطئ كان هاجعاً يغط في نومه فلما دبت في جنباته أول سمات النشاط والحركة هب الشيطان من سباته العميق ينشر زخرفه على أعين الناس وهو يترنم بالنشيد الأرضي الساحر فانطلق الحشد صوبه يتهافتون على بضاعته في غير وعي ولا عقل، وما زخرف الشيطان إلا اللذة والشهوة والفجور. . .

(هذا الشاطئ هو الجنة الشيطانية التي تضم ألف آدم وألف حواء، ولكنها لا تبسم عن نبتة واحدة ولا تزدهر بثمرة، إلا ورقة التوت. . . ورقة صاغها الشيطان بيده الصناع ليتوارى خلفها ثم يندفع من بين ثناياها يبذر فراس الإثم في القلوب الفاجرة فتؤتي أكلها - بعد حين - ندماً وحسرة. والشاطئ في الصيف ملعب الفجور ومسرح الفسق ومرتع اللهو

(لا عجب، فإن حرارة الشاطئ لا تصهر إلا الفضيلة والإباء، وإن مائي - ماء البحر الملح - لا يغسل إلا الشهامة والكبرياء، وأن نسماتي اللطيفة لا تزيح عن الأنفس سوى الأنفة والعفة!. . .

(هذه اللحوم البشرية العارية جاءت تطلب الصحة والعافية والجمام فارتدغت في حمأة

<<  <  ج:
ص:  >  >>