لقد عرفت مما قصصنا عليك أن هذا الرجل وإن نشأ عظامياً بما لبيته
من الغني والحسب، فقد نشأ عصامياً بما حصل من العلم والأدب. اتكأ
على نفسه فأكب على الكتب دائرها ومجفوِّها. ولعل أكثر نظره إنما
كان في كتب التاريخ والسير، ولو قد وقع لك صدر من آثار أبيه
وآثاره لرأيت لهما في مواطن الاستشهاد فطنه عجيبة، إلى دقائق
دقيقة، مما يعلق بزوايا التاريخ أو بحواشيه، قل أن يفطن لها أكثر
القارئين، وقل أن يحفل بها أو يعلقها من يفطن إليها من الدارسين.
على أنها قد يكون لها في دواعي الكلام مقام عظيم، وكثيراً ما ترفعه
درجاتٍ على درجات.
كذلك اعتمد محمد في تحصيل العلم والآداب على الاتصال بصدور أهل الفضل يصاحبهم
ويلابسهم، ويلازم مجالسهم، ويشهد محاضراتهم ومقاولاتهم. كذلك داخل رجال الحكم وأصحاب السياسة في مصر وفي الآستانة فعرف أساليبهم، وأدرك مذاهبهم. ولم ينكسر على هذا وهذا؛ بل لقد صاحب كذلك أهل الظرف وأصحاب البدائه وشاركهم في أسمارهم، ودخل معهم في مناقلاتهم ومنادراتهم.
وعالج البيان من صدر شبابه، يصقل له أبوه القول، وبقرب له مصطفى اللفظ، ويأخذه بتجويد النسج، ويهديه إلى مضارب العلم. وسرعان ما نضج وأدرك، وجرى قلمه بالبيان حلواً متيناً نيراً، ووقع من فنون المعاني على أجلها وأكرمها. ونهج لنفسه أسلوباً خاصاً به إن تأثر فيه بأحد، فبالأسبقين من أعلام الكتاب فكان منه بذلك كله الأديب التام.
واحترف صنعة القلم، واشترك في تحرير جريدة المقطم بضع سنين على ما أضن. ولا