وقف الفتى (عز الدين) يجفف عبراته المهراقة من أثر الأسى الذي تدفق في طوايا قلبه عاصفاً عاصفاً، يقض مضجعه ويهيج من أشجانه ويتغلغل في ثنايا حياته قلقاً واضطراباً يزعزع كيانه ويهد من قوته. . . الأسى الذي أحسَّ به أول مرة في حياته حين وجد فقد أمه الشابة، وحين رآها مسجاة في كفن، وحين شهدها وهي تتوارى إلى الأبد في رمس، وحين ارتد إلى الدار - آخر الليل فألفاها خاوية من الحنان خالية من العطف ما فيها سوى رجل واحد يجوس خلالها في جيرة وقلق، وعلى وجهة سمات الهم والضيق، مفزعاً ما تهدأ نزعته، تسكن حرقته. واقترب الفتى من أبيه ولصق الأب بابنه، ورانت عليهما صدمة المصيبة ووحشة المكان، وعقد الحزن لسانيهما ولكن العبرات تحدثت حديثاً طويلاً ما ينساه الفتى الشاب أبداً.
وقف الفتى (عز الدين) يجفف عبراته المهراقة وقد أشكل عليه الأمر واختلطت الحال، فأمامه حقيبة مفتوحة، وإلى جانبها ثياب متناثرة هنا وهناك، ومن حواليه حاجات مبعثرة، وهو بينها يضرب في تيهاء مضلة لا يستطيع أن يجمع شتاتها ولا يلم شعثها، فما له بذلك من عهد ولا طاقة. وتراءت له أمه في الخيال يوم أن كانت تنسق له حاجاته أول كل عام دراسي، يوم أن كان ينفض عنه غبار القرية ليستقبل أيام الدرس في المدينة يوم أن كانت أمه تعينه على أمره لا تحمله مشقة ولا تكلفه عنتاً، والدار من حولها تزخر بالناس وتفهق بالخدم، فأجهش بالبكاء وأوشك الخور أن يعصف به لولا أن خيل إليه أنه يسمع صدى صوت ناقوس الكلية يناديه في إلحاح إلى حياة الكد والعمل، ليسطر بدم الشباب الفوار أول علامات النبوغ والتفوق، ليقتحم بجده سبيل السمو والرفعة. . .، وليدفن هناك - بين شواغله - آلام قلبه وضنى روحه، فهب في تراخ وكسل يريد أن يهيئ نفسه للسفر.
لقد كان (عز الدين) وحيد أبويه، في العشرين من سني حياته، أتسم بسمات الريف، وطبع بطابع القرية، طيب القلب رضي النفس هادئ الطبع، وهو سليم البنية قوي التركيب، لم يفتره الشباب - يوماً - عن الدرس، ولم يصرفه مال أبيه عن أن يشمر للتحصيل، ولم