تبهره أنوار المدينة عن أن ينفذ إلى غايته في سهولة ويسر فنال شهادة الدراسة الثانوية في تفوق فتح أمامه باب كلية الهندسة في غير عنت ولا إرهاق. وطرب الأب لفوز ابنه، واستبشرت الأم. ولكن أمراً نجم - على حين فجأة - فغطى على فرحة الأب ووارى بهجة الأم. . . لقد انحطت العلة على الأم تعركها عركاً شديداً في غير هوادة ولا لين، فانطلق الأب يطب لها، والابن إلى جانبه، وإن الفزع ليملأ قلبه، وإن الوجوم ليغص من نشاطه. وحار الطب في أمرها زماناً فهوت بين يديه جثة هامدة وانطوت أيام لم تمسح على شجن الأب ولا طامنت من كربة الابن.
وانطلق عز الدين إلى المدينة. . . . إلى كلية الهندسة، يرزح تحت عبء من حاجاته، ولكنه اغتمر بين أترابه يلهو في لهموم ويعبث عبثهم لينسى صدمة القضاء العاتية. وأراد الأب - بعد حين أن يطمئن على وحيده، فانطلق إلى المدينة يسرى عن ابنه بالجديد من اللباس والطيب من المأكل والجزل من العطاء، فهدأت جائشة الابن وسكنت هواجسه، فاطمأن إلى درسه وإلى رفاقه.
لقد كان عز الدين طالباً ريفياً يقضي العام الدراسي في القاهرة منكباً على الدرس في جد ونشاط - كدأب أبناء الريف من الطلبة لا يشغله من وازع الحياة إلا ما يتناهى إليه - بين الفينة والفينة من أخبار القرية وهي تافهة حقيرة غير أنها كانت تهز مشاعره وتثير عاطفته لأن فيها ذكر أبيه وذكر أمه وذكر غيطه و. . . فلما بدأ دم الشباب التأثر ينتفض في قلبه أحس أن في القرية أشياء أخر تجذبه إليها في عنف. فهو يقضي شهور الصيف هناك ينعم بالراحة من عناء الدرس، ويسعد بالهدوء من صخب المدينة، وهو يخرج أصيل كل يوم - في جماعة من رفاقه - إلى ضفة الغدير يتنسم عطر الريف وتفكه بالحديث، والنكتة ويعابث بنات الريف وهن لدى الغدير يملأن جرارهن، وإنه لذو خيال وذو قلب. وكان يشعر بأن خواطره تحوم - أيداً! - حول فاطمة، وهي فتاة فيها جمال الريف وصفاء الجاذبية ومرح الظبي، فراح يداعبها بكلام فيه الرقة والظرف، وهي تقبل عليه - حيناً - في خفر، وتعرض عنه حيناً آخر - في دلال، وعلى وجهها بسمات الرضا والسعادة. فلا عجب إن كانت القرية تجذبه إليها ليرى هناك وجها أشرق النور من جبينه فأحبه فاطمأن إليه، هو وجه فاطمة التي يطمع أن يجلس إليها ساعة من زمان في خلوة، في منأى عن