أما الآن، حين حطمته الأيام ففقد أمه وأحس أنه فقد فيها الرفيق والعون والأسى جميعاً. . . الآن، جلس يكتب إلى أبيه (يا أبي، لقد مرت الأيام والشهور تهدهد من أحزاني وتسرى من كربتي، وأنا أخشى أن يثير المكان نوازع نفسي وأشجان روحي فأشرق بالهم وأغض الغم، فهلا تركتني أقضي عطلة الصيف في دار عمي في الإسكندرية فألمس هناك عزاء وسلوه؟).
وقرأ الأب رسالة ابنه فما اختلج قلبه ولا اضطرب فؤاده، لأنه يطمع أن يذر ابنه يتلمس السلوه والعزاء، ولأنه يريد أن يدفع ابنه عن القرية لأمر يسره في نفسه.
لطالما أحس الرجل في فقد زوجته لوعة الفراق وألم الوحدة ولذع الوحشة، ولطالما اضطربت في ذهنه خاطرة انضمت علها جوانحه فأسرها في نفسه أياماً وأياماً وهو في فوره الرجولة وفحولة العمر، ولطالما دخل الدار فخيل إليه أنها تلفظه لأنها لا يلمس فيها أنس نفسه ولا راحة قلبه، وما فيها سوى خادم عجوز تقبع - طول النهار - في ناحية - كأنها دمية من طين أسندت إلى جدار، ولطالما ضاق بحاجاته فالطعام تافه قذر تعافه النفس ويتقزز منه الذوث، والملابس وسخة متناثرة لا تتناولها بالترتيب يد رفيقة ولا يرق حواليها قلب حبيب ولا. . . وفاضت نفس الرجل بالضيق والملل فعزم على أمر أسره في نفسه.
وتعاقبت الأيام ترغم الرجل على أن يكشف رويدأ رويداً - عن سر قلبه، وعلى أن يتحدث - في حذر - إلى خلصائه بدأت نفسه، وفي الناس من يرود له الطريق ويمهد السبيل، فإذا هو زوج لفتاة من بنات الريف، فتاة في عمر ابنه عز الدين. . . تزوج منها على حين أن ابنه هناك في شغل لا يترامى إليه من خبر نبضات قلب أبيه إلا همسات قيها الشك والريبة. ومضت سنتان أسدلتا على قلب الفتى حجاباً كثيفاً من النسيان فتيقظ قلبه مرة أخرى - يخفق خفقات فيها الحنين والشوق إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب. . . إلى الدار، إلى الحقل، إلى الغدير، إلى الصبايا وهن يملأن جرارهن أصيل كل يوم وإن وجوههن لتطفح بالبشر والابتسام، وإن حركاتهن لتتوثب فتنة وإغراء، إلى فاطمة. . . الفتاة الرشيقة الجميلة الآسرة التي يطمع أن يجلس إليها ساعة من زمان في خلوة، في منأى عن عين الرقيب. ودخل الفتى الدار التي لم يسعد بها منذ سنتين، دخلها فوجد أباه بين