يخوض الناس في حديث الدين متنازعين يتساءلون: هل هو عقيدة روحانية وشريعة عمرانية معاً؟
أيضم الدين علاقة المرء بربه، وينظم كذلك علاقة الناس بعضهم ببعض فيما يضربون فيه من وسائل العيش وشون الاجتماع؟
والناس قاطبة مؤمنون بأن الدين عقيدة تسمو بالنفوس إلى الله، ولكنهم مختلفون في أنه مع ذلك قانون للمجتمع ودستور للدولة.
والهاتفون بأن الدين شريعة ودستور يلتمسون برهان ذلك فيما سن الدين من أوضاع تحكم مرافق الناس ومصالحهم جميعاً، ويرون في هذه الأوضاع قواعد جامعة صالحة لكل زمان ومكان، خليقة أن تقوم عليها سائر القوانين والأحكام.
والقائلون بقصر الدين على معاني التعبد، يريدون للناس أن يكونوا أحراراً فيما يتخذون من أنظمة للتعايش، مستهدين في ذلك حاجة العصر، وطابع الزمن؛ مسايرين موكب المجتمع البشري في تطوره الفكري.
والرأي عندي أن مثل النزاع لا يقوم فيأمةإلا إذا كانت من أمر نفسها على قلق. . . لا هي متدينة موصلة بدينها فتسكن إليه، وتهتدي في عامة شأنها به؛ ولا هي قد تخلت عن الدين جملة، فثركن إلى أن تتخذ لعلاقاتها الاجتماعية ضوابط من قانون مصنوع.
لا خلاف على أن الأمة المثالية هي التي تكون مصدر السلطات، وهي التي تحكم نفسها بقانون مستمد من خصائصها ملائم لما يشيع فيها من عادة وعرف، محقق لرغبة مجموعها فيما يعتقدون أنه خير وبر وصلاح. فإذا لم يكن قانون الأمة على هذا النحو من موافقته لنفسها، ومطابقته لمصلحتها، فهو قانون مفترى عليها، لا بقاء له فيها.
وإذن فالقانون لا منبع له إلا الأمة فيما يكون لها من مستوى فكري واقتصادي واجتماعي، وفيما يكون لها من صبغة نفسية وطابع شخصي، وفي هذا القانون الذي يحكمها تتجمع صفوة ما تتميز به من أخلاق وعادات وتقاليد، فإذا هو مرآة لها، تجلو وجهه نظرها في الحياة، ومبلغ فهمها لما هو خير وحق وعدل