من آثارنا التاريخية النفيسة كتاب (المنهل الصافي، والمستوفي بعد الوافي)، تأليف أبي المحاسن بن تغرى بردى المؤرخ المصري الكبير المتوفي سنة ٨٧٤هـ (١٤٦٩م) وهو معجم ضخم للتراجم يقع في ثلاثة مجلدات كبيرة، وتوجد منه نسختان خطيتان بدار الكتب المصرية. وفيه يترجم المؤلف أعلام الإسلام منذ أوائل الدولة التركية ويبدأ بالمعز أيبك التركماني زوج شجرة الدر وملك مصر (٦٤٨ - ٥٥هـ) أعني منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي إلى منتصف القرن الخامس عشر، ويفيض بوجه خاص في سير أعلام مصر والشام من ملوك وساسة وجند وعلماء وأد باء، ويترجم أيضاً بعض ملوك النصرانية وأمرائها في هذه العصور، مرتباً ذلك كله على حروف المعجم. وقد جعل أبو المحاسن مؤلفه تكملة أو ذيلاً لمعجم الصفدي الشهير (الوافي). ولهذا الأثر قيمة تاريخية خاصة، لأن مؤلفه وهو من أمراء البلاط القاهري في القرن التاسع الهجري لم يتأثر في وضعه بمؤثرات أو أهواء خاصة، ولا سيما فيما يتعلق بترجمة معاصريه، حسبما يشير إليه هو في مقدمته، إذ يقول إنه وضع كتابه (غير مستدعى إلى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والأخوان ولا لتأليفه وترصيعه من أمير ولا سلطان). والمعنى الذي يقصده المؤلف بهذه الإشارة ظاهر؛ فقد كانت معظم التراجم في عصره توضع بوحي معين أو تحقيقاً لشهوات لخصومات السياسية والأدبية، التي جعلت من كتاب القرن التاسع ومؤرخيه أحزاباً أدبية متنافرة متخاصمة. ولكن أبا المحاسن يقدم لقارئه سيَّر معاصريه والقريبين من عصره في صور أكثر استقلالاً وحرية في التقدير والحكم.
هذا الأثر المصري النفيس ما زال مخطوطاً لم ينشر، كمعظم آثارنا الأدبية. ولكن المستشرق المعروف الأستاذ (فييت) مدير دار الآثار العربية، أخرج لنا منذ عهدقريب بالفرنسية مجلداً ضخماً عن محتويات (المنهل الصافي) وسماه بنفس الأسم، ونشر ضمن مجموعة المجمع العلمي المصري، وكان ضمن مجلدات ثلاثة من وضعه قدمها أخيراً إلى جلالة الملك. والواقع أن كتاب مسيو فييت هذا لا يمثل كتاب (المنهل الصافي) لا في كثير