الأمم كألافراد، تقاس مدنيتها ومبلغ رقيها وتقدمها بمقاييس معقولة، لعل اصدقها حكماً وأصحها نظراً - وإن كان أقساها وأبعدها عن التحيز - مقياس الأمية. ولا أخال فرداً واحداً من أبناء النيل المخلصين لبلادهم، الذين لم تفسد النزعة الوطنية الجانحة حكمها على الأشياء، وتقديرهم للظروف، يكاد ينكر أن مصر على الرغم مما بلغته من الرقي المطرد في عصرها الحاضر الزاهر، وأخذها بجميع أسباب المدنية في العالم لا يزال ينظر إليها بغير العين التي نرضى أن ينظر لبلادنا بها، مادامت وصمت الأمية عالقة بجبينها، وظل الجهل مخيماً على السواد الأعظم من أهلها.
ولقد أصبحنا الآن في زمن يشعر فيه الرجل الذي لا يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب - مهما كان نابهاً مستنيراً واسع الخبرة والاطلاع - أنه تحت رحمة المتعلم، بل هو قدي يكون في اغلب الأحيان تحت رحمة الطفل الصغير في الكتاب الذي لا يستطيع أن (يفك الخك) إلا في صعوبة وعسر؛ فإذا أراد أن يحرر خطاباً لأحد أقاربه أو معارفه في جهة بعيده، أو يكاتبهم في مسألة هامة لا قبل له بتأجيلها إلى زيارة أو مقابلة فيتحدث عنها شفوياً، أو إذا أراد أن يحسب حسبة بسيطة مستعجلة كبيع القطن أو المحصول، أو تحرير مستند هام يضمن له حقوقه، أو الرد على إشارة من المركز أو العمدة، وجده نفسه مضطراً إلى ارتكاب الصعب، وإراقة ماء الوجه في استعطاف من يستطيع أن يقوم له بهذه الخدمة البسيطة من أهل القرية، ويكافئه عليها بما يزيد على قيمتها من اجر أو كلمات الشكر على الأقل. ولذلك يشعر رجال القرية جميعهم بأنهم مدينون بالشكر طول حياتهم لفقيه الكتاب، أو مأذون القرية، أو كاتب المحكمة، أو المجاور الأزهري القديم، أو غيرهم ممن يقضون لهم هذه الحاجات ولو بلغة ركيكة وعبارة سقيمة. فإذا انتقل من هذه الأمور البسيطة إلى أمور اشد خطراً واعظم قيمة، كتحرير عقد بيع وتسجيله، والإطلاع على منشورات