تحرك الجيش المصري بعد طول السكون، وسهر القادة يرسمون الخطط، ويعدون مناهج القتال، واستعد الجند وشحذوا السلاح، وسيقت الكتائب تتراً، فلا ترى إلا جنداً يزحفون إلى ساحة المعركة، يمشون خائفين وهم الكماة الشجعان الذين ما عرفوا الخوف، ويتقدمون حذرين وهم الشوس المقاديم الذين لا يرهبون الخطر، يتلفتون لا يدرون من أين يأتيهم هذا العدو المرعب، الذي يضرب الضربة، فيهدم الدور، ويفتح القبور وهو مختف لا يرى، فإذا وارى الناس موتاهم، ومسحوا دموعهم، وحسبوا أنهم نجوا منه، رأوه قد ضرب ضربته الثانية، في مكان قريب أو بعيد، لا يعلمون كيف تسلل إليه. لا يقف في وجهه حصن، ولا يرده بارود، ولا ينفع معه رصاص ولا قنابل؛ ولا يدرون من أين يطلع عليهم: أيهبط من السماء، أم يخرج من الماء، أم ينبعث من خلال الظلام؛ يخشون أن يكون قد امتلكهم وهم لا يحسون، وقبض على أعناقهم، يمتص دماءهم، ويزهق أرواحهم، ويجرعهم كؤوس الموت. . . وهم واقفون يحرسون البلاد منه، ويعدون العدة للقضاء عليه.
وفشا في الناس الخوف، وعمّ الذعر، وعلت الوجوه قترة الجزع، وشغلت الألسنة أحاديث الخطر، وملأت القلوب رهبة المصير ولو كانت معركة جنود وعتاد لهانت ولما خاف منها أحد، لأن هذا الشعب قد تمرس بالمعارك من يوم كان قابعاّ في صحرائه، يساير الشمس، ويصاحب الرمال، ويعانق السيوف، إلى أن أخرجه محمد ليضيء مصباح القرآن في المشارق والمغارب، فينير به الدنيا المظلمة، والقلوب القائمة، وهو إلف المعارك وحليفها، خاضها وهي تلتهب بنار الهواجر، عند خط الاستواء، وهي تتشح بجليد الشتاء على حدود القطب، ما ردّه عنها الزمهرير ولا ريح السموم، وواجه الأعداء من كل لون وجنس ولسان، فما يخاف اليوم إنكلترا ولا يخشى أمريكا، ولكن هذا العدو أنكى من إنكلترا نكاية، وأخفى مكراً، وأسرع ضرراً. صغير ولكنه يحط النسر من عليائه، ويلقى الأسد على مضائه، ويفتك بهذا الإنسان الذي حكم الجو والبحر، وسابق في الفضاء الصوت، وعاند القدر، فجاء القدر يحاربه بأصغر جندي من جنوده، بجندي تحمل الآلاف منه - من هوانه - رجل ذباب، وهي لا تشعر بما تحمل. . بـ (مكروب الكوليرا).