للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وسمع الناس باسم (الكوليرا) فذكروا (الهواء الأصفر) وذكروا (الوباء) وما يروي التاريخ من أرزائه وبلاياه.

واغتنم الشيوخ الفرصة ليحظوا بالالتفات إليهم بعد طول الأعراض عنهم، فحدثوا بما رأوا من فظائع الوباء الذي مر على مصرفي مطلع هذا القرن، والذي جاء جاز بالشام، في الحرب الماضية، ورأيناه نحن، وبالغوا، ووصفوا الجثث التي تكاثرت حتى ما تسعها القبور، والصراخ الذي علا حتى ما تتحمله الآذان، والآلام التي ازدادت حتى ما يطيقها بشر. فروَّعوا الناس وخوفوهم، على خوفهم، فما يستقر بهم قرار. . .

وقامت الحكومة، وانبرى الأطباء، يهدئون الناس ويطمئنونهم، ويرجعون إليهم ثقتهم بالعلم، ويضعون لهم المناهج الصحية، ويدلونهم على وسائل الوقاية: لا تشربوا الماء إلا من الأنابيب، وإن شككتم فيه فاغلوه، ثم صبوا عليه ماء الليمون، ولا تأكلوا الثمار إلا مسلوقة أو مغموسة بالماء المغلي، ولا تعملوا كذا إلا بكذا، ولا تصغوا كيت إلا بكيت. ثم تعالوا نعطيكم الدواء الواقي، وما بقي من القضاء إلا من قضاه. . ولكن لكل شيء أسباباً، ولكل مرض علاجاً، والذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء.

ونشرت هذه النصائح في الجرائد، وعلقت على السيارات، وقيلت في (الإذاعات)، وخطب بها على المنابر، وأسرع القارئون والسامعون يعملون بها، وينفذون ما جاء فيها، وحسب أولو الأمر أنهم قد أسمعوا الناس، وعلموهم، ووقوهم أسباب الردى، ولم يدر أحد بجيراننا الذين يسكنون (عشة حقيرة) خلال قصور الروضة العامرة، مبنية من جذوع النخل، مغطاة بالقش وبأنواع اللقي، لها باب صغير كأنه فتحة مغارة، لا شباك لها ولا نافذة، ولا ترى الشمس داخلها، ولا يجاوز الضوء بابها ولا يلجها إلا بمقدار. لا ماء فيها إلا ما يستقونه من ماء النهر فيضعونه في الجرار المكشوفة يلغ فيها الكلب، وتغسل فيها الآنية، ويسقط فيها الذباب، فتزداد أذى على أذاها، ولا نور إلا نور مصباح زيتي يكاد دخانه المتكاثف يطمس نوره الخافت، ولا نار إلا نار هذا الحطب الذي يوقدونه فيها ليطبخوا عليه، فيخرج دخانه من شقوق السقف، يملأ الحيّ، ويروع الغريب، فيظن أن البيت، (أعنى الكوخ) قد احترق. . . تنام في هذه (العشة) الأم (الشحادة) وأولادها والكلب والحمار الهزيل، وما لا يعلمه إلا الله من الفيران والصراصير والخنافس وسائر الهوام والحشرات والدبابات، لا يكلمون أحداً

<<  <  ج:
ص:  >  >>