في الحي ولا يكلمهم أحد، قد خرجوا من دنيا الناس ولم يدخل الناس دنياهم. وما دنياهم؟ إن خيراً منها دنيا كثير من كلاب الأغنياء وخيولهم وقردتهم. وليس فيهم من يقرأ جريدة أو يبصر إعلاناً، أو يسمع (رادّاً) أو يحضر وعظ واعظ، أو خطبة خطيب، فلم يعلموا بما روّع الناس، وصدع خوفه قلوبهم، ولا عرفوا من طرق الوقاية كثيراً ولا قيلا
ولم هم عرفوها، لما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً.
وأمثال هؤلاء الذين لم يدر بهم أحد كثير كثير. . إن نحن توقينا المرض، حملوه هم إلينا، فما أغنى عنا توقينا شيئاً، وإن اعتصمنا بالعلم والمال، فما لهم من علم يعصمهم ولا مال.
ولو كنا صدقنا الحملة يوم حملنا على المرض والجهل والفقر لوجدنا فيهم اليوم صحة تعينهم على احتمال المرض، وعلماً يمكنهم من فهم مناهج الوقاية، وما لا يقدرهم على تهيئة أسبابها. ولكنا أهملناهم فجئنا نتلقى عواقب هذا الإهمال، فإن أصِبنا اليوم بهم فيا طالما أصيبوا هم بنا، وإن شكونا من أذاهم لنا، فيا طالما شكوا هم من أذانا.
وهل شكوا حقاً؟ وهل تركنا لهم ألسنة تنطق بشكوى؟ أو أقلاماً تعبر عن نقمة؟ أما أخرسنا بالجوع ألسنتهم، وشللنا بالجهل أصابعهم، وحرمناهم الإنسانية حين جعلناهم حيوانات لا تنطق وما كان الإنسان إلا بالنطق إنساناً!
فانشروا الآن ما شئتم من نصائح، وأذيعوا ما أردتم من مناهج، إن أكثر الناس لا يقرؤونها، وإذا قرؤوها لا يعملون بها لأنهم عاجزون عنها، فوقوهم أنتم أسباب المرض لتقوا أنفسكم واعتنوا بهم ليبقوا في خدمتكم، ولكن لا تنموا عليهم بفعلكم، ولا تزعموا أنكم أحسنتم إليهم بصنعكم، لأنكم تطيلون حياتهم فتطيلون معها عذابهم، ولو تركتموهم يموتون لكان خيراً لهم (هم) وأبعد للمتاعب عنهم.
أما إن الخطر على هؤلاء المساكين منا، والخطر على الأمة منهم من مرضهم وجهلهم وفقرهم، أشد من خطر (الكوليرا) فاعملوا على دفعه، واعلموا أنكم إن لم تحيوهم بما في طبيعة العروبة من مساواة، وما في أحكام الإسلام من عدالة؛ أوشكتم أن تخالفوا بفعلكم العروبة والإسلام، وأن تؤيسوهم منها، وأن تضطروهم اضطراراً إلى التفتيش عن مصدر آخر للأمل لعلهم يظنون (ظناً كاذباً) أنهم واجدوه في الشيوعية، فيكونوا شيوعيين، ويومئذ تكون الطامة الكبرى. . .