ما تمخضت أفكار المصلحين بشيء اكبر اثراً، واجل خطراً، تمخضها بمشروع تعليم أهل القرى بوساطة النجباء من أهلها من طلبة الجامعة وسائر المدارس في هذه البلاد، فان مصر التي تتوثب الآن للحصول على مكانتها بين الأمم الراقية، وتحاول أن تسرد مجدها التاريخي الأقدم، لا تستطيع أن تحقق أمانيها القومية هذه وتسعة أعشارها أميون لا يعرفون من أمر الوجود إلا ما تدعوهم إليه الحاجات الجسدية، فأما النواحي العقلية وما يتجلى فيها من ثمرات البحوث الأدبية، وما تنكشف فيها من أسرار الوسائل العلمية، والأصول الإصلاحية، والمبادئ الاجتماعية والعمرانية، فهم بمعزل عنها، وإذا كلفوا بشيء منها لم يفقهوا له حكمة فلا يندفعون فيه عن اقتناع وروية. ألم تضطر الحكومة إلى الاعتماد على نوع من الإجبار حين نصت للفلاحين بجميع الديدان من شجيرات القطن وإبادتها، فتلكأوا فيها لاعتبارات خرافية حتى اضطرت لإنفاق أموال طائلة لمراقبتهم في القيام بهذه المهمة؟ أما تذهب اكثر النصائح الطبية سدى فيما يختص بوجوب تصفية مياه الشرب وفي عدم التبرز في المياه الجارية اتقاء لمرض البلهارسيا والانكلستوما اللذين يفتكان بهم فتكا ذريعا؟ ألم تفشل اكثر المحاولات التي أريد بها تخليصهم من العادات السيئة والتقاليد الضارة، حتى ولو جاءتهم من ناحية الدين الذي يقدسونه ويتفانون في المحافظة عليه؟
وكيف كانت تروج حيل الدجالين، وأحابيل المتطببين، إذا كان القرويون يقرأون ما يكتبه عنهم العارفون، وما تنشره الجرائد عن جرائمهم في العواصم والأقاليم؟
أن الجو القاتم الذي يعيش السواد الأعظم من الأميين فيه يجعل منهم كتلة متحجرة لا تستطيع بل ولا تفكر في أن تتابع خطوات المتعلمين في التقديم إلى الأمام، فيكون مجموع الأمة في حالة تخاذل: بعضه يحاول السير ويقدر عليه، وبعضه جامد حيث هو لا يستطيع انتقالاً من مكانه، بل الخير كل الخير في الإقامة على ما وجد أبويه عليه، فان حاول أن يتشبه بالمتعلمين خيل إليه أن ذلك يكون بتقليدهم في بعض القشور فيشذ عن الجماعتين، وينتهي أمره إلى حالة من الضياع يضطر معها أن يلتحق بالمجرمين ليعيش.