إن الأمة هي التي تصنع تاريخها، ولكن التاريخ يعود من بعد فيصنع صنعة جديدة. . .
نظرت في تاريخ مصر منذ أن أسلمته الأسرة الأيوبية إلى شجرة الدر، ثم منذ أسلمته شجرة الدر إلى زوجها المملوك أيبك التركماني، ثم منذ تسلسل في المماليك من قطز، إلى بيبرس، إلى قلاوون. . . ثم من قيتباي، إلى الغوري، إلى طومانباي الشهيد، ثم منذ استخلصته أمراء المماليك من أيدي (الباشوات) العثمانيين، سادة القلعة، ليتداولوه من علي بك الكبير، إلى أبي الذهب، إلى مراد وإبراهيم والألفي، إلى محمد علي الألباني، إلى إبراهيم وإسماعيل وفؤاد وفاروق، إلى ٢٣ يوليو الماضي. . فإذا هو كله عصر واحد، بدأ بشجرة الدر وانتهى بفاروق. .
عصر واحد له خصائص مشتركة تقوم على الغدر والأثرة، والانفراد بالسلطة، والتباهي بلا عمل، والاستعلاء بلا سبب، والسعي الدائب إلى غير هدف؛ ثم النساء والأطياب، والقصور، والمتاع الحرام. . .
وإزاء هذه الصفحات المسودة بتاريخ الملوك، صفحات أخرى تصف شعباً يختفي طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام، كل وسائله في المعارضة أن يصنع النكتة ويضحك لها حتى يكاد يندلق بطنه، وأن يتحدث همساً عن الغدر المأمول كما قرأه له شيوخه في (الجفر)، أو في الرمل، أو في صفحات النجوم؛ ثم الانتظار إلى أن يبرز (الزعيم) الذي يقوده، فما كاد يبرز ويتردد اسمه في الأسماع، حتى يصير هتافاً على كل شفة، وصدى لكل صفقة يد، وقصة في كل سامر، وبخوراً في كل معبد، وأكاد أقول ووثناً لكل عابد. . . ثم ينتهي ذلك الزعيم إلى أجل أو إلى غير أجل، فينتهي اسمه على الشفاه أو ينطوي، فلا تسمعه إلا في ثنايا نكتة يضحك لها قائلها وسامعها جميعاً. . . وتخفى طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام العابث. . .
هذه هي الخصائص المشتركة لهذا العصر المملوكي الذي بدأ في مصر منذ سبعة قرون، وانتهى منذ بضعة أشهر، وما أراه سيعود بعد. .
ولكن المؤرخين المحترفين وأساتذة التاريخ في المدارس يوشكون أن ينكروا علي هذا