(وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم، وسماكم المسلمين)
(ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة)
من أول خطبة له عليه السلام بعد الهجرة
تخيرت الأمم من عيون أيامها، وأعلام أحداثها، ما جعلته ميقاتاً تؤرخ به؛ فقالت لعام كذا من وفاة الأسكندر، أو غلبة دقيانوس، أو ميلاد المسيح، أو هو من ذاك. فلما تأذن الله أن يتخذ الإسلام ميقاتاً، أبى له أن يكون مولد فلان، أو مهلك فلان، أو تملك مملك، أو مصرع متوج؛ فكل أولئك خفيف عند الله في الميزان؛ وكل أولئك لقد يهون على الزمان.
يرحم الله ابن الخطاب! لقد كره التاريخ بالوفاة؛ نفر منه طبعه، وعافته فيه قوة الحياة، فتجلت بقلبه روح الإسلام مشرقة؛ وسمت له ألمعية لبقة؛ إذ آثر لذلك المبدأ يوم جلاد، واختار له ذكرى جهاد؛ يوم غالب فيه فرد جماعات، وناضلت عزمة عزمات؛ فبينا الباطل في قبائل يتنمر، والموت على يد الأجلاد يرصد ويدبر، تصدى لذلك كله (محمد) وحده يسخر؛ (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون). ما عز عليه أن يخلي الأهل والوطن، ولا راعه أن يغترب لغير مستقر، فغلب الحق وظفر، وانتصر الإيمان وقهر، في قلة وروعة وتجرد.
تلك آية الهجرة، وذلك في اختيارها سر الفكرة، ألقاه إلى الدهر عمر، وخلده حين حمله القمر، فجعله في التاريخ تقديراً؛ وإنما بعثه لرسالة الإسلام تفسيراً، يدور مع الأيام، ويتجدد لكل عام. . . . أفيتساءل المسلمون بعد أين الطريق وكيف النجاة؟ وتلك آية الهجرة أول الحياة في تاريخهم وأول تاريخهم في الحياة!
يا شرق. . . إن لك عند القمر معنى تاريخياً، وإن لك فيه لرمزاً حيوياً؛ فإن يبد في الغرب ناحلاً نضو أسفار، فهو الطلعة يرتاد لك طريق الفخار؛ وإن يتألق في الشرق بدراً كاملاً، فهو تاج مجدك، ومثال جدك.
الآن يرزح القمر سجف الغيب عن عام جديد، فيطالع في الشرق وجوهاً ناضرة، إلى ربها ناظرة، تحييها منه إشراقة باهرة، وطلعة نيرة، تجل فيهم ما فهموا من معاني المجد والنبل