(في الحال الحاضرة) عنوان عزيز عليّ وعلى اخويّ طه حسين ومحمود زناتي! نذكره في مقام الأنِس وساعة التنادر فيفجر الضحك من صدورنا المكبوتة، ويرجع بنا مقتحما تيار الزمن الدافق إلى العهود النفّاحة النضيرة من شبابنا الأول! يرجع بنا إلى بقعة من بقاع الأزهر العتيق، خفت فيها الدوي الهادر قليلا، وتهادنت بها أرواح العلماء فلا تشتجر في لفظة، ولا تختصم في (قولة)، ولا تزدحم على اعتراض، وإنما تسكن إلى هؤلاء الأيفاع الثلاثة ومن اخذ أخذهم سكون الطير المروعة إلى سلام الأيكة المنعزلة، لأنهم كانوا قليلا ما يرغبون في إثارة القلاقل وإهاجة الفناقل، على هذه الأرواح الآمنة البرة. إنما كان وكدهم أن يجتزئوا من علوم الفقه بقسمة القدر، ثم ينصبوا لعلوم اللسان فيدرسوا الادب، ويقرضوا الشعر، ويحاولوا الكتابة، ويتعرفوا إلى العلم الحديث في دور الكتب، ويطلوا على العصر الحديث من نوافذ الصحف، ويقفوا على البرزخ الممدود بين دنيا الأزهر ودنيا الناس، ينزعون إلى الحياة الحاضرة المتجددة نزوع اسماك البحيرة الأسنة إلى البحر الزاخر المزبد.
كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم على غرار (الحماسة)، وفي النثر على غرار (الكامل)، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبرا كأبي عبيدة، ولكنا كنا نجلس على ذلك البرزخ بعيدا عن هتاف الأشباح، نراقب سير المدينة، ونرامق حياة (الأفندية)، ونحاول العبور فيتساءل صديقاي:
- فيم ننظم؟
- في مدح الخديو
- وفيم نكتب؟
- في الحالة الحاضرة
ونكرر كل يوم هذين السؤالين، وهذين الجوابين، حتى استطعنا أن نجد كلاما في مدح الخديو فقلنا ونشرناه.
أما هذه (الحال الحاضرة) فكانت معاياة لم نجد لأمرها مطلعا ولم نقف في وصفها على حيلة! لان مدلولها يومئذ كان غامضا في أذهاننا غموض الجبر! فالقرويين يعيشون على نمط الفراعين، والأزهريون يعيشون في عهد الأيوبيين، والقاهريون يعيشون على حال