المماليك، وهذا الذي نسميه الحال الحاضرة ما كان يذكر إلا في مكاتب الصحف، ولا يعرف إلا في بعض دواوين الحكومة!
عبرنا البرزخ، وتعاقبت الأعوام على ذلك العهد تعاقب الموج، فبعضها هادئ وبعضها مضطرب، فأما محمود فظل على حدود الماضي، وأما طه فظفر إلى آماد المستقبل، وأما أنا فبقيت في الحاضر بين الصديقين، سأحاول أن اقضي عنهما هذه الدين، فاكتب اليوم الموضوع الذي وسمنا بالعجز عنه طوال ربع قرن!!
حالنا الحاضر محنة من محن الانتقال، وخدعة من خدع الاستقلال، وفتنة من فتن الباطل! فهي راكدة ركود العفن، واقفة وقوف الحيرة، لا تستطيع أن تجد لها في لغة التطور اسما ولا صفة! فلا هي سبيل نهضة، ولا هي دليل يقظة، ولا هي مظهر امتعاض! وكأنما تقطعت وشائج الاجتماع بين الطبقات والجماعات والأسر، فتناكر الناس، وتدابر الأهل، ودار كل امرئ على نفسه!
فالفلاح كما كان منذ أجيال، لا يكاد ينزع يده من الأرض، ولا يرفع طرفه إلى السماء، ولا يتبين وجهة الدنيا، ولا يتصور غاية الحكم، ثم يحول عليه الحول فلا يجد نقودا في جيبه، ولا سروراً في قلبه!
والعامل على أسوا مما كان: يقاسي العطلة، ويعاني الفاقة، ويشكو الامية، ويستغله الأجنبي بما دون القوت، ثم لا يجد في بلده العين التي تكلؤه، ولا اليد التي تحميه، ولا النور الذي يهديه، ولا الروح الذي يسيره!
والشاب في لبس من أمره! يتعلم ولا يعرف لأي عمل، ويتقدم ولا يدري لأي غاية؟ ويقولون له كن عزيزاً في بلدك، سيدا في دارك، متصرفا في أمرك، ثم يخضعونه للامتيازات فتكسر من نخوته في المجتمع، وتغض من كرامته في القضاء، وتهجم على ثروته في التجارة، ويفور شبابه الحين بعد الحين فيكفه الهوان الغالب والقيادة المترددة.
والأدب يعتمد في سلطانه على الدعوى والوقيعة، وينقل في أحكامه عن النكران والحقد، ويتفرق شيعا وطوائف، لا ليعدد مذاهب القول، ويجدد طرائق البيان، ولكن ليخلق الخصومة بين الكهول والشباب، ويؤرث العداوة بين الشعراء والكتاب!