للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين المعجزة والعلم]

للأستاذ زكي نجيب محمود

أخي س:

. . . لم أكن أتوقع من صروف الدهر مهما أسرفت في عبثها، أن تُخرج منك، وأنت القديس المتبتل في يفوعتك، زنديقاً يكفر بما كان يؤمن به قلبك ويدين!! حتى جاءتني هذه الرسالة منك، ففضضتها وأجلت فيها البصر سريعاً، فإذا بصفاتك تختفي وتتنكر، وإذا بك تبدو لعين صديقك إنساناً غريباً يشك بعد يقين، وينكر بعد إيمان! لقد مضيت في كتابك لي ترفض كل ما يزعمه الناس من المعجزات وخوارق الطبيعة، وتلوح في كل سطر بالعلم وقوانين العلم، وتعتز في كل سطر بالفلسفة ونتائج الفلسفة؛ ثم ختمت الرسالة بهذه العبارة أخذتها من كتاب سبينوزا (في الدين والدولة): (يظن الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجليان بوضوح إلا بالحوادث الخارقة التي تناقض الفكرة التي كونوها عن الطبيعة. . . إنهم يظنون أن الله يكون مُعَطَّلاً ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح، أي أن قوة الطبيعة والأسباب الطبيعية يبطل عملها ما دام الله فعَّالاً؛ وهم بذلك يتخيلون قوتين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله وقوة الطبيعة؛ والواقع أن الله وقوانين الطبيعة شيئ واحد). ولقد ساءلتني بعد ذلك قائلاً: (ما حاجتك إلى التمسك بالمعجزات وخوارق الطبيعة ما دام العلم يفسر لنا كل شيئ بقانون؟!)

وإني لأستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بما انتهى إليه هذا العلم نفسه، من أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم كما يذهب بك الظن، بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، كالكائنات الحية سواء بسواء؛ وإن هنالك بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها ذرة واحدة تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، فكما أنني لا أستطيع أن أتنبأ بما أنت فاعله غداً، كذلك لا يستطيع العلم أن يقطع جازماً بما ستؤول إليه هذه الذرة أو تلك، لأنها يا سيدي تتمتع بشيء مما تتمتع به أنت من حركة وإرادة، وليست مجرد آلة صماء في يد القانون!! ولكن يجب أن أسارع إلى القول بأنه وإن تكن الذرة الفردية على شئ من الحياة التي تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>