تجمع بين فخامة الملك الباذخ وصولة السلطان المؤثل، وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية.
وفي إقامة هذه المنشآت الباذخة وبذل هذه النفقات الطائلة ما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي بلغته الدولة الأموية بالأندلس من القوة والضخامة والغنى؛ وقد انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت لعهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف (أعني خمسة آلاف مليون) وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار؛ هذا عدا أخماس الغنائم العظيمة التي لا تحصى؛ وقيل لنا إن الناصر خلف وقت وفاته في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف (خمسة آلاف مليون) دينار؛ وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة أثلاث، ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة، وثلث يدخر للطوارئ، ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول هذه الأرقام حتى أن دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب ويقول لنا ابن حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة والزهراء في ذلك العصر إن الناصر وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة هم أغلى ملوك العالم في ذلك العصر؛ وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة الأموية وطائل غناها وبذخها في عصر الناصر، وتفسر لنا كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته الكثيرة أن يضطلع بأعباء هذه المنشآت العظيمة الباهرة.
واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر أعني حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة؛ واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر؛ واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة. ولكنها غدت منزل الملك والخلافة، مذ تم بناء القصر والمسجد؛ وقد كان ذلك فيما يظهر في سنة تسع وعشرين وثلثمائة ففي شعبان من هذا العام تم بناء المسجد، وأقيمت به أول جمعة رسمية؛ وكان الناصر قبل ذلك بنحو عامين قد اتخذ سمة الخلافة وتسمى بألقابها (سنة ٣٢٧هـ)، فكانت الزهراء بذلك أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس.