وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة ٩٣٦م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية، وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من المريه وريه، ومن قرطاجنة أفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية؛ وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل ومن الدواب ألف وخمسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ستة آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر أعني مدى خمسة وعشرين وعاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد الحكم وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة؛ وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلاً سمي بقصر الخلافة صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة؛ وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس، بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير الذي أهدي إليه من قيصر قسطنطينية، وأقام عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر المرصع بالجوهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من فيها إلى الحوض. وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة المسحورة عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والأناقة والبهاء.
وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيما تم بناؤه في ثمانية وأربعين يوماً، وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال والصناع والفنانين، وزود بعمد وقباب فخمة ومنبر رائع الصنع والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال، وأنشئت بها مجالات فسيحة للوحوش متباعدة الساح ومسارح للطير مظللة بالشباك، ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي؛ والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة