إن الذي يدرس تاريخ اليهود من قديم الزمن يعرف أن العوامل التي تتنازع سياستهم ليست حديثة العهد، وأن مواقف الأمم الأخرى منهم في هذا العصر كانت لها أشباه ونظائر في عصور التاريخ المختلفة في عهد قدماء المصريين والبابليين والآشوريين والفرس والإغريق والرومان. فمسألة اليهود كانت موجودة حتى قبل أن يفقدوا استقلال شعبهم وقبل أن يخرب طيطوس ابن الإمبراطور الروماني فسباسيان معبدهم وقبل أن يقضي على أورشليم، وقبل أن يتشتت اليهود في العالم. بل هي كانت موجودة قبل ذلك عند أسرهم، ونقل الكثير منهم إلى بابل وهو المعروف في التاريخ باسم أسر بابل وكانت موجودة عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة وإعادة بناء أورشليم، وعندما شجعهم في أعمالهم المالية كي ينشط التجارة في دولته. ويتنازع نفوس اليهود من قديم الزمن عاملان: النزعة العالمية، والنزعة الشعبية المصطبغة بصبغة دينية. وقد كانت متاعب اليهود قديماً وحديثاً ناشئة من استفحال النزعتين وتنازعهما نفوسهما؛ فتارة يوقعهم الغلو في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية في نزاع مع الدول الأخرى، وتارة يوقعهم الغلو في النزعة العالمية في ذلك النزاع. وقد كانت النزعة العالمية تظهر في نفوسهم في بعض الأحايين بمظهر اقتصادي مالي فيحاولون السيطرة على أسواق العالم المالية، وتارة تظهر النزعة العالمية بمظهر الدعوة إلى مُثُل عليا. وكان بعضهم يريد قصر تحقيق هذه المثل على اليهود، وهؤلاء هم الذين كانوا يناصرون النزعة الشعبية الدينية، وبعضهم لا يريد قصرها على اليهود بل تعميمها في العالم. والغريب في أمرهم أنه بالرغم من المشاحنات والاقتتال الذي كان يحدث قديماً بين اليهود من أنصار المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية وبين أنصار النزعة العالمية، وبالرغم من أن النزعة العالمية في نفوس بعضهم كانت تتخذ مظهر الأثرة المالية والطباع الدنيوية الراغبة في الربح المالي قبل كل شيء، وهي طباع تخالف نزعة المثل العليا وتخالف التضحية في سبيل تحقيقها، فإن كثيراً منهم كان يحاول التوفيق في نفسه بين النزعتين المتناقضتين أو يحن تارة إلى هذه وتارة إلى تلك، كما أن بعضهم كان يحاول الاستفادة لنفسه أو للشعب اليهودي من النزعتين المتناقضتين معاً.