فاليهودي الذي يميل إلى المثل العليا أو الذي يميل إلى المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية لا يرى حرجاً في أن يلتجئ إلى صاحب النزعة العالمية المالية والطباع الدنيوية لاستخدام ماله وسلطته في سبيل تحقيق مثله العليا أو في سبيل المحافظة على التقاليد الشعبية الدينية لضيقة التي ترفض النزعة العالمية، كما أن صاحب الطباع الدنيوية والأثرة المالية لا يرى تناقضاً في خطته إذا حن إلى المثل العليا التي قد تخالف نزعة أثرته الدنيوية، أو إذا ساعد في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية الضيقة التي تخالف نزعته العالمية الدنيوية، وربما حن إلى المثل العليا ذلك الحنين الذي يدعو إلى التضحية في سبيلها في الوقت الذي يستثمر الدعوة إلى تلك المثل العليا لكسب المال وزيادة نفوذه الاقتصادي. واجتماع هذه النزعات المختلفة في النفس الواحدة ليس مقصوراً على اليهودي فهي طباع النفوس البشرية عامة، ولكن هذا التناقض أظهر ما يكون في اليهود لغلوهم في النزعتين المتناقضتين غلواً يظهر الفرق بينهما في نفوسهم أكبر منه في نفوس غيرهم. وقد ظهر اليهود قديماً وحديثاً ظهوراً كبيراً في مناصرة النزعتين المتناقضتين، وهذا أدى كما ذكرت إلى مشاحنات بين طوائفهم وإلى مشاحنات بينهم وبين الأمم. وقد ظهرت النزعة العالمية في حياة اليهود على اختلاف مظهري تلك النزعة أي المظهر المالي الاقتصادي ومظهر المثل العليا قبل أن يفقد اليهود كل سلطة سياسية في حكم فلسطين. فظهرت في دولة الفرس وظهرت في دولة الرومان
على أن فقدانهم كل سلطة سياسية في حكومة فلسطين لم يوهن النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم وإن كان قد ساعد على استفحال النزعة العالمية. وتحريم الكنيسة المسيحية على المسيحيين تقاضي الربح عند تسليف النقود واعتباره ربا أدى إلى ما يشبه احتكاراً من اليهود للمعاملات المالية وإلى سيطرتهم على الأسواق المالية في أوربا، وهذا قوى النزعة العالمية في نفوسهم كما أدت النزعة الشعبية الدينية إلى مناصرة بعضهم بعضاً؛ وزادت هذه المناصرة إذ وجدوا أنفسهم قلة يهودية في وسط كثرة غير يهودية من الشعوب التي هاجروا إليها. وشأن القلة من الطوائف التعاون حتى لا تغمرها الكثرة ولا سيما إذا كانت الكثرة كثرة تبغض القلة. وزاد البغض الديني في نفوس الكثرة أولاً استيلاء اليهود على الأسواق المالية بالتسليف؛ وثانياً عواقب مناصرة اليهود بعضهم لبعض من استيلائهم على