كثير من المهن التي تحتاج الأعمال الفكرية والاستعداد العلمي والفني. وبالرغم من أن بعض اليهود حاول معالجة هذا البغض والقضاء على الكره الذي كان غير اليهود يشعرون به نحوهم بالاندماج في الأجناس الأوربية اندماجاً تاماً، فإن الكثرة من اليهود بقيت محافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية. ولو أن النزعة العالمية غلبت على نفوسهم كل الغلبة لتمكنوا من الاندماج في الشعوب التي استوطنوا أرضها. وهذا الاندماج كان ينسي تلك الشعوب أن اليهود في أصلهم أجانب، وهذا كان يزيل البغض الذي كانت آحاد تلك الشعوب تشعر به نحوهم، وكان يستطيع اليهود أن ينعموا بميزة القدرة على كسب المال، ولكن ربما كانت تلك القدرة تقل لو تم ذلك الاندماج لأنه كان ينسيهم اختلاف جنسهم عن الأجناس الأخرى؛ فكان يقضي على مناصرة بعضهم لبعض، وعلى تعاونهم للسيطرة على الأسواق المالية، وعلى المهن الفكرية والعلمية.
وبقاء النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم أدى إلى فكرة الصهيونية التي تدعو إلى العودة إلى حكم فلسطين. وهذه الفكرة كانت في أول أمرها مثلاً أعلى كالمثل العليا تحلم بها الإنسانية ولا تحقق. وهذه الفكرة الصهيونية زادت اعتقاد آحاد الشعوب الأوربية أن اليهود بينهم - وإن تجنسوا بجنس غير جنسهم، وإن ضحوا في الحروب وفي غير الحروب لمناصرة الجنس الجديد الذي تجنسوا به - إنما هم أجانب بالرغم من ذلك، وأنهم يعدون أنفسهم أجانب.
وهذه الفكرة الصهيونية مخالفة لمصالح اليهود الاقتصادية؛ فإن قطراً كفلسطين ربما كان يصلح لاستيطانهم قديماً عندما كانوا قليلين وعلى حالة قريبة من البداوة، وعندما كانوا هم الكثرة الغالبة فيه. أما الآن فقد زاد عددهم في العالم وتعددت فوائدهم ومنافعهم العالمية، وصار في هذا القطر كثرة غير كثرتهم من العرب الذين وراء كثرتهم في فلسطين كثرة عربية أخرى في الأقطار المجاورة. ولو خلت فلسطين لليهود لما استطاعت أن تؤوي غير عدد قليل من الملايين العديدة من اليهود. وفي العالم بقاع شاسعة أكثر خصباً تحكمها إنجلترا وغيرها من الأمم المناصرة لليهود. فلا يمكن أن يقال إذاً إن الضرورة والأسباب الدنيوية هي التي تقضي بإسكان المهاجرين اليهود في فلسطين. . . لا، بل تشبث اليهود بفلسطين هو تشبث بتلك النزعة الشعبية الدينية التي تفضل التقاليد القديمة والتي تحاول أن