حل العام الهجري الجديد، ونرجو أن يكون حلوله مباركاً على العالم أجمع، وأن يشمل العالم من نعمة دين الهجرة في العام الجديد أكثر مما ناله في العام المنصرم. إذا تطلب الإنسان مثلاً على في الحياة تطلع إلى دين محمد، وإذا تطلب الطمأنينة لجأ إلى كنف دين محمد، وإذا اشتدت به الحياة المادية جنح إلى روحانية دين محمد، فأي شيء أشهى إلى النفس من أن تقرأ شيئا عن محمد في مستهل العام الهجري الجديد؟
هكذا قد قرأت كتاب الأستاذ المفضل الدكتور محمد حسين هيكل (حياة محمد) عند ميلاد هلال العام الجديد، فكانت بشرى، وكانت مسرة، وكانت عظة. والدكتور هيكل شاعر النفس، وإن لم يقل الشعر. لم يكن لي عهد بقراءة شعر له، حتى أعرف فيه هذه الصفة. غير أني قرأت له الكتاب، فإذا به في بعض نواحيه شعر يملأ النفس ويثير أشجانها. ولئن كانت كتب السيرة كثيرة، فإن كتاب الدكتور هيكل له ميزة على سائر السير بأنه قد انعكست فيه مشاعر الكاتب وخلجات نفس الإنسان، فإذا قرأه القارئ وجده يصور صورة حية تامة ناطقة في ثنايا ذكر الحوادث ووصف الحالات.
يبلغ الكاتب زيارة الرسول مع أمه آمنة. ثم عودتها منها وموتها في الطريق، فلم يشأ أن يذكر تلك الحادثة وحدها، بل لها صورة ظاهرة الألوان، حية تفيض عطفا وقوة فيقول:(فلما كانوا بالمدينة أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه، والمكان الذي دفن به، فكان ذلك أول معنى لليتيم انطبع في نفس الصبي، ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بين أخواله أجله.
ولما تم مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما إلى مكة، فلما كانوا في منتصف الطريق مرضت آمنة بالأبواء وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحدة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنات الألم لفقد أبيه وهو جنين ما يزال، وهاهو ذاقد رأى بعينيه أمه تذهب كما يذهب أبوه، وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملاً).