ولو شئنا أن نضاعف ضرب الأمثلة لضاق مجال الكلمة عن إيرادها، فالحق أن الكاتب قد أبرز في الكتاب عاطفة تكسو ما بين سطور السنين، وتحي جسد الحوادث إحياء
ولقد وفق الكاتب في معالجة السيرة مراعاة التناسب بين أجزائها، فكان يطيل الوقفة عندما يجمل به الوقوف عنده، وكان يمر سريعاً عندما يجمل الإسراع في ذكر الحادثة. ونذكر على سبيل التمثيل وقفتين له أحسن في التريث عليهما من الدلس: أعني مسألة إسماعيل ونسبة العرب إليه، ومسألة الغرانيق العلا. فأنه في الوقفة الأولى كشف عن تلك البدعة المضلة التي يقصد بها إلى التشكيك في أمر يكاد يكون من العقائد، فأبان عن الوهن في حجة المشككين إبانة لا تدع مجالاً للريب؛ وفي الوقفة الثانية عرض لحجج الخائضين فانتظمها جميعا في طعنة قاضية. ولست أستطيع أن أذكر شيئا من تلك الحجة، فإن المجال هنا لا يتسع لها ولا يصلح إيراد قطعة من حجة لا تكون مجزئة.
على أن وقفاته التي من هذا القبيل كثيرة، بل هي تتخلل الكتاب في كل الفصول وفي كل وجوه البحث.
غير أننا مع إعجابنا بالكتاب وأسلوبه، ونقده وطريقته، لا يسعنا إلا أن ننكر منه أشياء إلا تكن في صميمه فهي في حواشيه، نعني بذلك أولا عنايته بقول من قال السوء من أعداء الإسلام، فقد أورد من أقوال بعض الأفاكين من أهل الضلال والتضليل ما يجرح الأذن سماعه، على حين لم يكن ذكره في صميم الموضوع ولا في عرض الحجة. فأي شيء يجديه علينا ذكر سباب شنيع للرسول الكريم ورد على ألسنة بعض أهل الحقد والزيغ؟ ولقد قيل شيء من أمثال ذلك في أيام الجاهلية، فتعفف أهل السير عن إيراده، وخيراً ما فعلوه، فإن المؤمن إنما يتعرض لحجة خصمه، لا لسبابه ولا لفحشه، وما كان أغنانا أن نُسمع الناس بعض ما نز من قلوب هؤلاء الأنجاس.
وأمر آخر نذكره عرضاً وننبه إليه الأستاذ الكبير، وهو بعض ما سها فيه عند ذكر السنين، ولعل ذلك كان خطأ في الطبع أو المراجعة، وذلك مثل قوله في حوادث اليمن؛ وما كان فيها من الحرب في أيام جوستنيان أنها وقعت في القرن الخامس الميلادي والمقصود هو القرن السادس، لأن حكم جستنيان يقع فيما بين سنتي ٥٢٧، ٥٦٥ بعد الميلاد؛ وكذلك قوله بعد ذلك هذا النزاع الذي كانت اليمن مسرحه منذ القرن الرابع المسيحي، كما ننبهه إلى