منذ الساعة الثالثة بعد الظهر وأمينة في عراك بينها وبين نفسها. فمرة تقوم لترتدي ثيابها وتعد نفسها لملاقاة (صادق). ولكنها لا تلبث حتى تلقي الملابس وترمي أدوات الزينة مهتاجة الأعصاب ثائرة النفس. فإنها لا تريد لقاءه ولا تبغي أن تشاهد وجهه ولا أن تستمع إلى حديثه، ولا أن تبادله ذياك الحديث. فقد أصبح بغيضاً لديها، كريهاً في عينها، منبوذاً من كل عواطفها إلا عاطفة الحقد. لقد عرفته أول ما عرفته شاباً وادعاً رقيقاً ملأ أذنيها بأحاديث الهوى، وصور لها دنياها زهوراً ورياحين، وأضاء في قلبها نور الأمل، وأشعل في نفسها جمرة الحياة الحلوة الهنيئة، وحسبته صادقاً في قوله مخلصاً في حبه، وفياً بعواطفه، يريدها شريكة له تقاسمه نعماء الحياة وبأساءها، يبنيان معاً كالعصفورين عشاً يتذوقان فيه جمال الدنيا وينعمان فيه بسقسقه صغارهما زينة الحياة وذخر الباقية.
وكانت قد اطمأنت إليه وأنست لحبه، وبادلته النجوى كما بادلته رسائل تفيض سطورها بأشد العواطف، وتسجل في كلماتها خفقات قلبها.
وكان لقاؤهما أول العهد نادراً لا يستطيعانه، فكانت الرسائل عزاءهما وسلوتهما، ورسول قلبيهما؛ وكان والدها رجلاً شهماً قوي الشكيمة، يحيط منزله بعنايته ويتعهده برعايته، فكان الإفلات من حضانته عسيراً: ولكن الشباب لا يُغلب والعاطفة في زمنه لا تقهر، تستطيع أن تنفذ ولو في الصخر الصلد. وعلى ذلك فقد تقابل العاشقان بعد طول البعد. وبعد أن ربط بين قلبيهما مجرد النظر والميل الغريزي والخيال البارع، ووثقت الروابط والعلاقات الرسائل التي كانا يتبادلانها، والتي كانت ألفاظها تحمل من المعاني ما هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه نضح الخيال وثمرة الأمل الواسع والرجاء الفسيح.
ولكن المقابلة وتكرارها مرة أخرى باعدت بين العاشقين، فقد عرفت من أمره ما غاب عنها بين سطور الرسائل، فهو يريدها كما يريد الرجل المرأة، تدفعه شهوة الشباب الغلابة التي تتشكل في صورة العاطفة وقد تسمو وترقى، وتأخذ هيكل المثل الأعلى ولكنها لا تلبث عند اللقاء واللمس وتذوق القبلة والعناق أن تنكشف وتتساقط جافة صفراء من فوقها ومن حولها