قال عمير بن عبد الله السلمي لمحمد بن نصر الكلابي: إن الله فيما يأتي من الأمر لحكمة بالغة يفهمها الناس حيناص ويقصرون عن فهمها في كثير من الأحيان. وإن الرجل الرشيد خليق أن يتعظ بما يفهم، وألا يلح في تأويل ما لم يفهم، وأن يطمئن قلبه إلى أن حكمة الله بالغة، وإلى أن قضاءه منته إلى الخير دائماً.
قال محمد بن نصر لصاحبه: هو ذاك، وما أظن أن أحداً منا ينكر ذلك أو يماري فيه فما تحدثك به؟ وما هذا التفكير العميق الذي أرى آثاره بادية في وجهك؟ وكانا هذان الرجلان من فتيان قيس، شديدي البأس، قد ملأ قلبهما إيمان قوي بالله، وحفاظ قوي للعرب، واعتزاز قوي بالنفس، وحب قوي للجهاد. وكانا قد مضيا مع الصائفة غازيين حتى بلغا ثغراً من ثغور الروم، فأمعنا في الغزو ولقيا فيه من الجهد والشدة، واحتملا فيه من المشقة والبلاء شيئاً عظيما، لم يزدهما إلا إيماناً على إيمان، وحفاظاً إلى حفاظ، وحباً للجهاد إلى حبهم القديم للجهاد، وكان الله عز وجل قد قضى لهما أن يعودا من هذه الغزوة موفورين، فلما بلغا مأمنهما مع الجيش في بلاد المسلمين نذرا لئن مد الله في حياتهما حتى ينقضي الشتاء، وتستأنف الصائفة من قبل غارتها على بلاد الروم ليكونن لهما في هذه الغارة بلاء، وليضعن كل واحد منهما نفسه في مقدمة الجيش المغير، وكانا قد أزمعا من أجل ذلك ألا يبعدا في الرجوع إلى موطنهما، وأن ينفقا فصل الشتاء في مدينة من مدن المسلمين هذه المنبثة في الشام، والتي ترابط فيها الجنود، قد قسمت بينها تقسيماً، ووزعت عليها توزيعاً، ولم يكونا من أصحاب الديوان في جند من أجناد الشام، وإنما كانا رجلين قد باعا أنفسهما من الله وتطوعا في الجهاد، وأقبلا يبتغيان المثوبة، فلحقا بالصائفة فيمن يلحق بها من المتطوعين؛ ولم يصرفهما عن حمص أنها لم تكن للمضرية داراً، وما يريدان إلى المضرية أو إلى اليمنية، وهما إنما يمران بهذه المدينة مروراً ينتظران أن ينقضي فصل من فصول العام ويقبل فصل آخر ليستأنفا نشاطهما وليقبلا على ما يبتغيان من ثواب الله مجاهدين؟
فلما استقر بهما المقام في حمص أياماً وأسابيع أخذا يدوران فيها ويتعرفان بعض أمرها،