ويسمعان إلى ما كان يجري على ألسنة أهلها من بعض الحديث. وقلما كان أحدهما يخرج منفرداً، إنما كانا أكثر أوقاتهما متلازمين كأن ما دفعها إلى الهجرة من أوطانهما قد جمع بين نفسيهما في الجهد والبأس، كما جمع بين نفسيهما في الرخاء واللين. فقلما كانا يفتقران أثناء الغارة على اختلاف الظرف وتباين الخطوب التي كانت تعرض للجيشين وتلم بالمغيرين. وهما الآن لا يفترقان أو لا يكادان يفتقران، وقد أظلهما الأمن وضمنتهما سلم لا يخافان معها شدة ولا بأساً ولا فراقاً. ولكنهما في هذا اليوم لم يكادا ينفتلان من صلاة الغداة حتى فرقت بينهما حركة الناس وازدحامهم مسرعين كأن هناك أمراً ذا بال يروعهم ويدعوهم إلى الازدحام ويدفعهم إلى أن يشهدوا مشهداً يجب أن يشهده الناس. وقد دفع محمد بن نصر مع المزدحمين وأسرع مع المسرعين، لم يكن له في ذلك رأي أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن حمد ما أدركه من ذلك، فمضى مع الماضين مختاراً لا كارهاً، وحرص على أن ينتهي إلى حيث كانوا يريدون أن ينتهوا. وقد سمع في أثناء ذلك ما سمع، ورأى ما رأى، وامتلأ قلبه بالعظات والعبر، وشغل عقله بالتفكير المتصل العميق، حتى إذا تفرق الناس وكلهم يملأ نفسه العجب عاد إلى صاحبه يحدثه بما سمع ويحدثه بما رأى، ويبدأ حديثه بهذا الكلام الذي أوجزته لك آنفاً فلما سأله صاحبه عما به قال: لقد شهدت اليوم أمرا عظيما: شهدت جنازة رجلا ملأ قلوب الناس حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وأثار في نفوسهم كثيرا من الحفيظة، بل حفيظة لا تنتهي، وأثار في نفوس الناس كذلك إعجاباً وإكباراً، وأطلق ألسنة الناس بالذم الشنيع، وأطلق ألسنة الناس بالثناء الكثير، ورسم على وجوه الناس آثار الموجدة المنكرة، ورسم على وجوه الناس كذلك آثار الاعتراف بالجميل، ورسم على وجوههم بين ذلك ابتسامات فيها سخرية وازدراء، وفيها عطف وإشفاق؛ ثم رأيت الناس يعودون من تشييعه إلى قبره، وإن الحيرة لتملأ قلوبهم، وإن الشك ليضطرب في نفوس كثير منهم، وإنهم على هذت كله ليقولون فيما بينهم مثل ما كنت أقوله لك منذ حين، وانهم على هذا كله ليظهرون الثقة بحكمة الله البالغة والاطمئنان إلى عفوه الذي ينال به من يشاء.
قال عمير بن عبد الله: ما رأيت كاليوم رجلا يؤثر التلميح على التصريح، ويقصد إلى الغموض دون الوضوح، فحدثني بحديثك لا أبا لك ولا تطل، فما تعودت منك إطالة ولا