أعتقد نيتشه أنه رائد الإنسانية الأول، وظن أن أحدا قبله لم يطرق السبيل الذي طرقه؛ ولكن الرواد قبله كانوا كثيرين، وهذا السبيل الذي ضرب فيه مطروق مطروق!. فهذا الإيمان الشديد بالأرستقراطية وعبادة الذات، قد سبقه إليه لاروشيفوكو وهلفتيوس ورينان وتين وبرودون وفلوبير وغيرهم. وذلك الاعتقاد الراسخ باستحالة المساواة بين الناس قد ذهب إليه من قبل (جوبينو) الذي أعجب به نيتشه أشد الإعجاب. وتلك الكراهية الشديدة للمذاهب الاشتراكية والفوضوية، قد ترددت من قبل على لسان (هارتمان) الذي أزرى به نيتشه كل الإزراء. وهذه الثورة العنيفة على الأخلاق السائدة والقيم الجارية، قد لقيت من قبل في (جوبو) أحسن معبر لها. وتلك الدعوى الجريئة إلى (اللاأخلاقية) قد سبقه إليها أحد معاصريه وهو (شترنر) - فليست رسالة زرادشت إذن جديدة كل الجدة على الإنسانية، وإنما هي رسالة رددها على مسمع منها كثير من مفكري العصر الحديث. وإذا كان في هذه الرسالة شيء من الطرافة، فذلك لأنها تعبر عن شخصية صاحبها التي استطاعت أن تؤلف بين كل هذه الأفكار المختلفة. ومعنى هذا أن ما يروعنا ويستهوينا في نيتشه، هو أولا وبالذات، شخصيته، لا آثاره. فهذه الشخصية الرائعة تنطوي في أعماقها على نفس فنانة، وقلب شاعر؛ وفي أبعد أغوارها يكمن (الإنسان العظيم) الذي طالما تحدث عنه نيتشه نفسه!
بيد أننا مع ذلك مضطرون إلى أن نضرب صفحا عن تلك الشخصية، لكي نقصر النظر على آثارها. وقد أراد نيتشه أن تحكم عليه الإنسانية بما خلف من آثار، فلم يبق إلا أن نحاسبه على هذا الأساس. وما دام هو قد تنكر للماضي، وثار على تراث الإنسانية كله، فلا بأس من أن تحكم على آثاره محاولين أن نتلمس ما فيها من جدة مطلقة. - ولكن لابد لنا من أن نقرر قبل ذلك أن نيتشه قد أستثنى بعض المتقدمين، فأعترف بالفضل لطائفة من الكتاب والمفكرين، ممن أنجبتهم الحضارة الفرنسية (التي هو مدين لها). وقد حرص نيتشه على أن يذكر بصفة خاصة ستندال، فإن هذا المفكر الفرنسي - فيما يزعم نيتشه - قد استلبه أجمل فكاهة الحادية يمكن أن تخطر بالبال، وهي قوله: (إن العذر الوحيد الذي يشفع