دخل الغابة ينشد الوحدة الهادئة الهادية، فرآها أول ما رأى في صمت الجذوع وتحملها، ثم تمثلها عند تساقط الأوراق واستسلامها، وفي السكون الشامل الذي يحيط به، وفي اللون الأخضر القاتم الذي يغشاه، ثم سمعها في أنين الغابة الداوي، ولاقاها عند الغدير الصغير الجاري، ورآها في قاع مجراه الصافي كامنة بين الحصا الأبيض الناعم، ثم شاهدها في تهدل الأغصان واضطرابها، وفي رعشة الأوراق المتحيرة ذات الحفيف المحزن، ووجدها ساكنة في الأعشاش الخاوية، ولمحها عالقة بأجنحة الطير المتثاقلة وهي تبيت. وفي آخر أشعة الشمس الصفراء وهي تغيب.
جلس في تلك الظلال القاتمة وحيداً بين الشجر، ينظر إلى السماء الناعسة يستنجدها وحيها المهيب. أو يستودعها سره العجيب. وقد بدت فروع الأغصان مع الأوراق على صفحة السماء وقت هذا الغروب في لون من سواد كئيب، كأنها (دنتلة) الحزن على صدر أملس رائع أسيف. قد صبغته نيران الزفرات والتنهدات بلون الشفق الوردي الهادئ صدر واسع عميق جذاب تحنو عليه شفاه الرحمة والإشفاق بقبلات العطف والحنان تترك فيه آثارا من حرارة التضامن الكامن في الصدور بين قلب حنون وآخر محزون. .
لم يفكر في شيء، فقد أحاطت به الأفكار من كل جانب، قام هارباً من تهافت الأفكار متعمقاً في الغابة يطلب الهدوء الأصيل في حضنها الظليل، ومن هاجمته أفكاره أعجزته تفكيراته، وقد يضيع بها أو يبقى بينها حيران زماناً حتى تجذبه إحداها فتشغله عن سواها، وهكذا يفر المرء من عذاب إلى عذاب.
على أنه وقد وجد سكينته عند الطبيعة فقد سلبها منه وآلمه فيه ابن الطبيعة، طلع عليه من خلال الأشجار أطفال يلعبون، والناس ملائكة صغاراً شياطين كبارا.
كَمِنَ له الصغار لما رأوه مقبلا هائماً، انتظروه إذ ظنوه سارحا هادئاً. فاجئوه يحسبونه خائفاً، فلما وجدوه رابطا ثابتا، عادوا يخشونه متحفزا ثائراً. ثم تنبه هو من تيهه فوقف باسماً، يدعوهم لاعبا مسالماً ضاحكاً، ولكنهم من الرجفة الأولى يفرون مستنجدين صارخين. فأنجدهم أهل لهم في الغابة يحتطبون، يسألونهم عن أمرهم وما دهاهم من