للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بعد عشرين سنة. . .]

للأستاذ علي الطنطاوي

قلنا: قف لحظة بنا يا قطب. لقد هلكنا من التعب

قال القطب: امشوا. .

وضغط على (الميم) ومد (الشين) مدة ساخر بنا، وأوسع خطاه فصمتنا وتبعناه مرغمين

وعدنا نمشي في هذه البرية الواسعة، وقد أنتصف الليل وغاب القمر، واحتوانا الظلام بسكونه الموحش وسواده المطبق. . . وثقل علينا هذا الصمت، فقال القطب: غنوا. . .

وحاولنا أن نغني كما كنا نغني في أول الليل، ولكن التعب والوحشة والنعس، كل أولئك كان يحبس أصواتنا ويمسك ألسنتنا، فخرج الصوت ضعيفاً متقطعاً ثم هبط حتى إختفى، ورجعنا إلى الصمت. . .

وتجسمت وحشتنا، حتى كانت الجبال البعيدة تظهر لنا في ظلام الليل كأنها أشباح الرعب، والأشجار أمثال العفاريت الشواخص، والسواقي التي كنا نمر عليها كان ماؤها يبدو لنا أسود يملأ خريره القلوب رهبة. . . وكذلك أحال الظلام كل ما هو جميل في الوجود بشعاً مرعباً. . .

ولاح لنا من بعيد ضوء يتراقص على حاشية الأفق، فقال القطب:

- هذه هي (التكية)!

فسرى عنا، وتجددت قوانا، وعلمنا أنا قد بلغنا آخر المرحلة، ودنا المنزل

وكان ذلك عام ١٩٢٥. وكانت إحدى رحلاتنا مع (القطب)

وكنا نقوم بهذه الرحلات قبل أن يعرف فينا نظام الكشفية وقبل أن يدخل بلدنا، نقطع فيها ما لا تقطعه كشافة على وجه الأرض، نسير خمسين كيلا في اليوم نصعد في الجبال أو نتسلق الصخر، نخوض ظلام الليل وحر الهاجرة، نحمل أثقالنا على ظهورنا، نتعرض للوحوش واللصوص والمخاطر، حتى لم تبق بقعة حول دمشق قريبة أو بعيدة إلا بلغناها، ولا قرية إلا دخلناها، ولا عين إلا وردناها، وكان قائدنا (القطب)، وليس (القطب) اسمه، ولكنه لقب لقبناه به أخذاً من الخرافة الصوفية المشهورة. . . واسمه الشيخ حسين، وهو خطاط وإمام مسجد ومعلم صبيان متقشف زاهد يقبل من الدنيا كل ما جاءته به، فيأكل

<<  <  ج:
ص:  >  >>