أوضحنا في المقال السابق مدى تأثير بيئة شاعرنا على شخصيته، وانتهينا إلى أنها قد غرست في نفس الشاعر عدة أمراض نفسية؛ أهمها التشاؤم والشعور بالضعة والنقمة على الأغنياء، ووعدنا أن نفصل القول اليوم في شأن ذلك الحب الفاشل الذي زاد حياة الشاعر تعقيداً وأدى إلى تمكن تلك الأمراض الاجتماعية من نفسه.
وقصة ذلك الحب تبدأ برحلة الشاعر إلى بغداد طالباً للشهرة، فقد كان يرجو أن يصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي عسى أن يعجب به ويستدعيه لإلقاء الشعر بين يديه. ولكن أنى له ذلك وهو شاعر ناشئ مغمور! لقد هداه شيطانه إلى أن يتغنى في إحدى جواري القصر، راجياً أن يدفعها الغرور وحب الظهور إلى ترديد ذلك الشعر في قصر الخلافة ولفت نظر المهدي إليه.
ونحن لا نشك في أن المصادفات لعبت دوراً خطيراً في حياة الشاعر فجمعت بينه وبين جارية ماكرة طموح من جواري الخليفة، وقد كانت في نفس الوقت تبحث عن مثل ذلك الشاعر الناشئ المغمور لحاجة في نفسها، تلك الحاجة هي التغني بجمالها وسحرها في شعره، وغايتها من ذلك لا تكاد تخفى على كل من له خبرة بشؤون ذلك العصر. فقد كانت الجواري إذ ذاك مطمح الأنظار، ويكفي لتأكيد تلك الدعوى أن نعرف أن الخيزران زوج الخليفة المهدي وأم الهادي والرشيد كانت من بين أولئك الجواري، ولم يقف بها سعد الطالع عند ذلك؛ بل استطاعت أن تجعل من بنات أخيها وأختها زوجات للهادي والرشيد. وليست الخيزران بفريدة في ذلك الشأن، فقد أقبل الخلفاء على الإماء إقبالاً شديداً حتى أن الرشيد قد أنجب من نحو عشرة منهن، وناهيك بمن لن ينجب منهن. والدرس الذي يمكن أن تتعلمه الجواري من مثل تلك الحال غير خفي، فلم يكن يعوز إحداهن لكي تصبح صفية أحد الخلفاء أو زوجة إلا أن تلفت نظره إليها بوسيلة من الوسائل. فما الذي يمنع عتبة والحال