للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كذلك أن تتقبل بصدر رحب غناء أبي العتاهية وإشادته يذكرها. . وهل هناك وسيلة للفت الأنظار إليها أيسر من شعر الغناء؟

هكذا بدأت علاقة الشاعر بعتبة كل منهما يحاول استغلال صاحبه لمصلحته الخاصة. ولكن العلاقة بينهما لم تقف عند ذلك الحد المادي. فعتبة يسرها ويرضي كبرياءها أن يكون الهائم بها المشغوف بحبها ذا مظهر حسن حيث أن قدرها وخطرها يرتفعان بقدر ما يرتفع قدر المعذب في سبيلها. . على حين كان شاعرنا ما يزال فقيراً مغموراً. وقد كان علاج ذلك عندها أن خلت بالشاعر يوماً من الأيام وأبدت اهتمامها بشأنه وناولته بضع مئات من الدنانير كي يرفع بها مستواه؛ وذلك بشراء ملابس فاخرة وحمار وما إلى ذلك.

وقد كان هذا مبدأ تحول خطير في نظرة الشاعر إلى عتبة؛ فلم تعد صلته بها نوعاً من عبث الشباب أو وسيلة إلى تحقيق ربح عادي، ولكن حباً شريفاً عميقاً فهي في رأيه ذلك الملاك الرحيم الذي لا يبادله حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص فقط، بل يشفق عليه ويفكر في أمره ويسعى إلى رفع مستواه المادي والأدبي. . فكيف لا يحبها إذن ويسرف في حبه لها. أما عتبة فلا تزال حيث بدأت ولا يزال طرفها متعلقاً بالخليفة أو أحد أمراء البيت المالك، ولا يزال أبو العتاهية في نظرها ذلك الشاعر المغمور الذي لا يجيد شيئاً ولا يصلح لشيء إلا التغني بجمالها والعذاب في سبيلها. وقد اتبعت معه سياسة ماكرة ملتوية المراد بها إطالة تعذيبه وهيامه، وذلك بأن تدنيه وتقربه وتعده وتمنيه كلما اشتد به اليأس منها وعزم على نفض يده من شأنها. . ثم تمهله وتتغافل عنه كلما اشتد هيامه بها وإلحاحه عليها. . وأشعاره تمثل لنا الحالين. وإذا شئت فاستمع إليه وقد طلبت صراحة أن يتغنى بحبها حتى يعرفه القاصي والداني:

أعلمت عتبة أنني ... منها على خدر مطل

وشكوت ما ألقي إليه ... اوالمدامع تستهل

حتى إذا برمت بما ... أشكو كما يشكو الأقل

قالت فأي الناس يع ... لم ما تقول فقلت كل

أو شئت فاستمع إليه إذ يشكو هجرها له:

بخلت علي بودها وصفائها ... ومنحتها ردي ومحض صفائي

<<  <  ج:
ص:  >  >>