ويل للأدب إذا أحتاج إنتاجه الرفيع إلى التشجيع، واذكر كبار الأدباء في الشرق والغرب فإنهم قد منحوا الإنسانية هذا التراث العميق الضخم دون أن يشجعوا إلا نادراً، وتستطيع أن تقول أنهم اشتقوه من آلام نفوسهم وقلوبهم ومن استمتاعهم بلذة البؤس والحرمان، وإنها للذة حلوة لشدة قسوتها!
طه حسين
ساعة من العميد:
لم يخدعني الحرس الواقف بباب معالي الدكتور طه حسين باشا عما كان يدور بخلدي وأنا في الطريق أليه. كنت نشطاً إلى لقاء معاليه في الموعد المضروب، وأنا أعرف عن نفسي - فما أعرف عنها - التثاقل بل العزوف عن مقابلة الوزراء وأمثالهم من الكبراء، ولكني كنت موقناً أني ذاهب إلى رجل ليس من هؤلاء، أو هو منهم شكلاً ورسماً، ولكن فيه ما أقصد غير ذلك، فيه الأديب الأستاذ الذي وطالما ألقي إلى وطالما وعيت عنه، وطالما تحدث إلى وتحدثت إليه وإن لم ألقه قبل ذلك إلا لقاء عابراً، طالما أصغيت إليه في السطور وعشت معه فيما بين السطور، وطالما أنس به خيالي وأنا أسوق إليه الحديث في بعض ما أكتب.
كان ذلك ما يدور بخلدي حين أقبلت على دار العميد أستأذن في الدخول. وأذن لي، واستقبلني معاليه في غرفة المكتبة، وقد لقيت منه الأنس أول ما لقيت، وشاء أدبه أن يعتذر لوقوفي دقائق بالباب. وأخذت مجلسي بجواره، وأنا أشعر - على انقباض في - بأن التعارف بيننا قديم العهد. وأخذنا في الحديث، تنتقل من الخاص إلى العام، ومن عام إلى خاص، وكان يجيبني عما وجهت إليه من أسئلة في شؤون الأدب والفن بطلاقته المعروفة، ويمزج ذلك بمرح ودعابة في بعض المواطن، ويمسك عن الحديث العام حيناً فيسبغ على أنسه وإلطافه. . . فكان يفكر ويعبر ويلطف ويؤنس في آن. . قضيت معه ساعة ما أعظمها! وما أقصرها! وخرجت من لدنه، وقد قبست لقراء الرسالة أقباساً من أدب العميد،