(للأستاذ محمد كرد علي مذكرات تتناول مشاهداته وتاريخ حياته من يوم وعى لنفسه، وقد تحدث فيها كثيراً عن مصر ورجالات مصر، ويسرنا أن نقدم إلى قرائنا هذه الصفحة منها.)
أخلاق القضاة
لم أرَ فيما رأيتُ من أنواع العداوات أشد من تعادي المشايخ، ولا أكثر
من غمط بعضهم حق بعض، ولا أعظم من تكالبهم على حُطام الدنيا،
ولا أشد تهالكا منهم على أبواب الأمراء والحكام. ولقد رُويت لي عنهم
روايات ما كنت أصدقها لولا أن روايتها ممن لم يعرفوا الغيبة
والنميمة. ولما أخذت أتعرف إلى الرجال رأيت ما هالني، وآلمني أن
كان من يُطلب منهم الصدق هم من أول الكاذبين، ومن تفترض فيهم
الأمانة هم في مقدمة الخائنين؛ وأيقنت أن القليل منهم عرفوا الكرامة
وعزة النفس. وهم هم جعلوا مسلكهم بضعتهم علامة ضَعَة وصَغار،
وكان علامة شرف وفخار. وأُصيبوا بغرور وزهو ظنوا معهما أن
سلطانهم القديم على الملوك، فمن دونهم، يبقى لهم بهذا الجهل وهذا
الفساد
قلت يوماً لعالم درس تاريخ الإسلام درس تدبر، وعرف استخراج عبره:(أما كان في العصور الماضية قضاة جاهلون فاسقون سارقون، فكتب الأدب تتعرض لذكر كثير مما كان يتهمون به أليس ما روي عنهم صحيح أم صنعوه للنكتة؟) فأجاب: أكثر ما روي في سيرة القضاة قديماً صحيح، والجهل وسوء الخلق لا ينقطع دابرهما من الأرض، ولكن إذا فرضنا أنه كان في المملكة الإسلامية ألف قاض في القرون الغابرة، وألف مثلهم في هذه الأيام، فإن الألف السابقين كان فيهم عشرة فاسدون لا يصلحون، أما الألف اللاحقون فالفاسدون منهم