يعدون بالعشرات بل بالمئات. وأظن السلطان بيلديرم بايزيد العثماني هو الذي جمع قضاة مملكته لما ثبت له قلة دينهم وتلاعبهم بالحكومة وأمر بقتلهم كلهم؛ فلما حقت عليهم كلمة العذاب لجئوا إلى أحد حاشيته وندمائه ورشوه بمبلغ من المال (وداوني بالتي كانت هي الداء)، فذهب إلى السلطان لابساً ألبسة السفر، فسأله السلطان عن الداعي إلى اكتسائه هذه الكسوة؛ فقال: إنه ذاهب صاحب القسطنطينية - وكانت يومئذ بأيدي الروم - ليأتي من عنده بقسيسين يتولون القضاء في بلاد السلطان. فضحك هذا وعفا عن القضاة على ألا يعودوا إلى سالف سيرتهم القبيحة
ومازالت حال القضاة في تدهور العصر بعد العصر حتى كانوا هم السبب الأعظم في إدخال قوانين الغرب على الدولة العثمانية والحكومتين العربية والتونسية لكثرة ما أساءوا إلى الشرع الإسلامي وعبثوا بأصوله وفروعه، فكانت المحاكم الشرعية بؤرة فساد، وأحكامها سلسلة من الخلل والعلل، فأكرهت أوربا الدولة على قبول قوانينها، ظناً منها أن الفساد آت من الشريعة، وما العيب إلا من جهل المنفذين لأحكامها وفساد أخلاقهم. وقد شاهدنا تحسناً ظاهراً في قضاة الشرع لما أنشأت الدولة مكتب النواب في الآستانة وكان المتخرجون على أساتذته إلى الاستقامة والعلم أكثر ممن سبقوهم بكثير. ومثل ذلك شاهدنا القضاء في مصر يتولاه اليوم الأخيار وكان في القرن الماضي يتولاه الأغمار والأشرار. بحثت سيرة من أهمني أمرهم من القضاة فقلَّ جداً من اقتنعت بذمته منهم، ومن نعده مستقيماً قد لا يتعفف عن قبول الهدايا من أرباب المصالح
قصة لطيفة وقعت لقاض من أهل دمشق كان في دومة من الغوطة، وكان مضحاكا خفيف الروح يحفظ كثيراً من النوادر والفكاهات، وهذا جل رأس ماله في القضاء على ما يظهر. أتاه ذات يوم رجل اسمه محمد عبد النافع أحد ظرفاء دومة بكتاب يقول له فيه إن الله خلقه بغير إرادته، وأنى به إلى هذا العالم ولم يستشره، وزين له أن يتزوج ففعل، ورزقه أولاداً ليقربهم عيني والديهم فكانوا علة إفلاس والدهم وشقاء والدتهم، وإن فقره يزيد كلما زاد عدد أولاده؛ فهو لذلك يتلمس من القاضي أن يجلب إلى محكمته العادلة المدعي عليه وهو الله سبحانه وتعالى ليتقاضى معه؛ فرأى القاضي أن صاحب الدعوى من أصحابْ النكتة، فانتظر حتى أنجز أرباب الأشغال مراجعاتهم وأغلق باب المحكمة ولم يترك فيها غير