في ليل يوم الجمعة الماضي سكت في (برن) قلب الملك فيصل! وما كان في حسبان أحد من دنياه أن هذا القلب الذي يجيش بالحياة، وينبض بالأطماع، ويستخف بالأمور الجسام، يسكت في وحدة الغريب ووحشة الليل الرهيب هذه السكتة المفاجئة!!
فلما نعاه البرق إلى الآفاق فزع الناس إلى الشك يدفعون به هول الخطب، ورجم بعضهم بالظنون يعللون بها بغتة الحادث، وتعذر على العقل أن يفهم الموت مقرونا إلى فيصل (صقر قريش) وقد كان إلى أمس يقطع بعزمه الجبار أجواء الشرق والغرب حاملا في يمناه العراق، وفي يسراه سورية، وفي قلبه (دولة العرب)!! ثم انجلى الشك وانجابت الظنون فإذا العراق وإذا سورية وإذا العرب أمام الفاجعة التي روعت النفوس وضرمت الأنفاس وقوضت حصون الأمل!!
لم يجزع العرب حين نعى إليهم فيصل على نفس كسائر النفوس
تغوص في لجج العدم، وانما جزعوا هذا الجزع الهالع على آمال أمة،
وجهود نهضة، ومستقبل فكرة؛ لأن ملك العراق كان مناط هذه الآمال،
ومبعث هذه الجهود، وعدة هذا المستقبل!
ومن العجيب أن يكون مصدر هذا الجزع كثرة الزعماء الأكفاء لا قلتهم! فِان هذه الكثرة كانت دائما وبالا على وحدة العرب إذا لم يقم على رأسها زعيم يعتمد في قيادتها على سلطان الدين وشرف النسب، وقد اجتمع الملك فيصل مع هاتين القوتين عقل كيس، وخلق نبيل، ونفس طموحة، وجاذبية قوية. فلا جرم أنه كان رجل الساعة لهذه الأمة الناهضة يجمع كلمتها حول رأيه، ويوحد وجهتها وراء خطاه!
عرفت جلالة ملك العراق أثناء مقامي ببغداد معرفة وثوق وخبرة. وكانت حال البلاد في ذلك الحين محنة ابتلت بها كفاية الملك النابغ: فالانتداب كان قبل الملكية يعمل في العلن ويحمل التبعة، فأصبح بعدها يعمل في السر ولا تبعة عليه، والحكومة كانت يومئذ بادية البلى ممزقة الجوانب لا تستطيع بخروقها أن تستر العرش، فالملك بحكم الوضع كان يستر الإنجليز، ولكن الوزارة بحكم الضعف كانت تكشفه. فكانت أوزار أولئك وأخطاء هؤلاء تحمل في رأي المعارضة والشعب على الملك، وكانت البطانة بعبثها تنفض ظالمة على جد